كان عاما مختلفا، حصلت به حوادث استثنائية، وامتلأ بالشواهد التي لم يعتدها أهل ذلك الزمان. فكأن نبأ بأمر جلل سيحدث، يغير مجرى التاريخ، ويصيغ المستقبل بوجه مشرق. نعم، فقد تجلّت بذلك اليوم هـدية السماء لأهل الأرض، إذ وُلد بذلك العام، محمد بن عبد الله، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم؛ دعوة أبينا إبراهيم وبشارة سيدنا عيسى عليهما السلام.
إن مولد محمد بن عبد الله، يشكل الحدث الأبرز على مر تاريخ البشرية، وهو بداية حضارة تفجّر نورها إلى الكون، ومحطة وضّاءة بمسيرة الإنسانية، وهو المقدمة الأولى لنزول الرسالة السماوية الخاتمة والبعثة النبوية الخالدة إلى الناس كافة.
ستظلّ البشرية مدينة لرسولنا الأكرم لفضله عليها بنقلها من بواتق الجهل إلى فضاءات النور. إذ أسست ولادة النبي العربي الهاشمي، لحركة فكرية ومرحلة عقائدية، وجهت الإنسان إلى وجوب التحرر من انغلاقات العقل، وأشرقت له آفاق التنور السليم والإبداع الخلاق. كما خطت النهج الرباني القويم في الحياة المستقيمة؛ المبنية على القواعد الانسانية في العدالة والمساواة. فكان سيدنا محمد عليه السلام بحق مخلصا للآدمية من الظلم والظلال، وهاديها إلى العدل والاستقامة.
ولقد رقت رسالة الإسلام السمحة إلى مستواها المحكم ونطاقها العالمي، عندما اصطفى الله عز وجل سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، رسولا أمينا لحمل الرسالة ونشرها للناس كافة. وهي دعوة مستمرة في كل زمان وتصلح لأي مكان، خلافا لدعوات الأنبياء عليهم السلام من قبل. فكان خـُلق هذا النبي العربي الأمي- وسيبقى- القرآن الكريم، جاء متمما لمكارم الأخلاق، فارتقى إلى المكانة المثالية للإنسان، ولم يوازيه بها أحد من المخلوقات، مكتمل الأوصاف منزّه من الخطايا والأخطاء. لذلك قال الله بوصفه عليه السلام (وإنك لعلى خلق عظيم).
وفي حضرة ذكرى مولد سيد الخلق ورسول الله، ما زال العقل الإنساني يعيش حالة من الانبهار الفكري والاندهاش الوجداني بهذه الرسالة الإسلامية الحنيفة، بما امتاز به المبعوث الأمين من سجايا وخصال وقدرات فاقت حد الطبيعة وتجاوزات حدود الممكن، وبما تحمله هذه الرسالة من عقائد قيمية وقيم أخلاقية وأفكار فضلى، لم يصل أي إبداع بشري إلى مستواها الإحكامي، ولن يصل أي منهج فكري أو قانون أرضي إلى ذلك المستوى من الدقة والبلاغة والصواب.
إن مهمة سيدنا محمد عليه السلام النبيلة، وهي تبليغ رسالة رب البشر إلى الناس توحيدا وإيمانا وعقيدة، تنهى عن الشرك وتزيل أي لبس من عقلية الإنسان بالتبعية إلى غيره عز وجل، بالتخلص من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد؛ إنها دعوة الحرية والتحرر، ودعوة الكرامة والعزة، والتحول من التـّيـه إلى الرشد.
وتعتبر ذكرى المولد النبوي الشريف، فرصة جوهرية لإعادة تقييم مسيرة الذات، والرجوع إلى النهج القويم بالحياة، وتصحيح المسار، بما يتوافق مع المعيار الوسطي في ديننا الحنيف. فزمننا الحاضر، المليء بالتناقضات والارتجافات والاختلالات، يـُبرز ضرورة الاهتداء بنهج سيدنا محمد عليه السلام واعتداله وحكمته، لإنقاذنا من تلك الأوضاع المتردية، ووضعنا على جادّة الطريق المستقيم. وهذا يلزمنا أن نحب رسولنا الأكرم، صاحب الفضل والفضيلة، ونجسد احتفالنا بذكرى مولده الشريف من خلال اتباع هداه عليه الصلاة والسلام.