بين الطبيب جميل فائق التوتونجي وطبيب دنماركي (كنود شرويدر)
يطيب لي كمؤرخ لتاريخ الطب في الاردن ان انقل للقارئ الكريم تفاصيل المناظرة الطبية التي تمت بين الطبيب جميل فائق التوتونجي اول وزير للصحة في الاردن عام 1950 والطبيب الدنماركي كنود شرويدر كما جاءت في مذكرات الدكتور التوتونجي وما تم تناقله عبر مجلة الهلال المصرية المعروفة انذاك .
ان اهمية هذه المناظرة انها قد بدأت في عام 1925 عندما كانت الامارة تعيش في اجواء من الجهل والامية وكذلك الانتشار الواسع للأمراض والاوبئة في الريف والبادية . ولم يكن عدد الاطباء انذاك يتجاوز اصابع اليد الواحدة . علما بأنه لم تكن هناك جامعات او مراكز بحثية تذكر بهذا الخصوص , لكن حبى الله الاردن ببعض العقول النيرة والتي كرست جل اهتمامها للنهوض بالخدمات الطبية لعلاج المرضى بعيدا عن المصالح الشخصية الضيقة .
وبهذا الخصوص وجدت وثيقة مكتوبة بخط الدكتور التوتونجي الطبيب الخاص لسمو الامير عبدلله بن الحسين يشرح ملابسات هذه المناظرة .
يقول التوتونجي بأنه قد قرأ مقالة مترجمة في مجلة الهلال بعنوان (الانسان يغالب الموت) والمنشورة في الجزء الثامن من مجلة الهلال عام 1933 حول تأثير الحمى في الجنون . وقد اهتم التوتونجي بمطالعة هذه المقالة لما له من علاقة شخصية بهذا الموضوع حيث انه قد نشر في مجلة اللانست البريطانية الطبية الشهيرة عام 1925 مقالا يتحدث عن ان جنون الشلل العام يعالج اليوم في اوروبا في احدى الطريقتين :
الاولى : حقن المصاب بهذا المرض بميكروبات البرداء (الملاريا)
الثانية : حقنة بالكبريت
وأضاف التوتونجي بأنه اول من فكر في استعمال الكبريت بدلا من ميكروبات البرداء حيث كان الاعتقاد قبل ذلك شائعا عند الكثيرين من الاطباء ان للميكروبات المذكورة تأثيرا خاصا في جنون الشلل العام .
ويضيف التوتونجي بأنه في سنة 1925 عالج مريضا مصابا بشلل الطرف العلوي الايمن بحقنه بالكبريت داخل العضلات فكانت حرارته ترتفع درجة او درجتين بعد كل حقنة وبعد اثني عشر حقنة شفي شفاء تاما وهو الان يحرك ذراعه كأي انسان صحيح الجسم .
وقد قام التوتونجي بنشر هذه التجربة في مجلة اللانست الطبية في الجزء 5321 الصادر في 22 اب سنة 1925 (الصفحة 408) وعزا شفاء ذلك الرجل الى ارتفاع درجة الحرارة في جسمه بسبب الحقن بالكبريت وطلب من جمهور الاطباء انذاك في العالم تجربة هذه الطريقة في معالجة جنون الشلل العام بدلا من استعمال ميكروبات الملاريا . وفي الجزء نفسه من مجلة اللانست نشر المحرر خلاصة وسائل المعالجة بجنون الشلل العام ولفت انظار القراء الى مقالة الدكتور التوتونجي واشاد بتجربته .
وفي سنة 1929 اي بعد نشر مقالة الدكتور التوتونجي بأربع سنوات نشرت مجلة اللانست للدكتور كنود شرويدر الدنماركي مقالة تتضمن نتيجة التجارب التي قام بها في معالجة جنون الشلل العام بالكبريت والتي جاءت مؤيدة لفكرة التوتونجي الا ان هذا الدكتور اهمل ذكر اسم التوتونجي في مقالته . كما جاء بعده الدكتور نويل هاريس احد اطباء مستشفى الامراض العقلية في لندن فنشر في مجلة اللانست مقالة شرح بها خلاصة التجارب التي قام بها بهذا الصدد وعزا الفكرة الاصلية الى الدكتور شرويدر المذكور .
عندها بعث الدكتور التوتونجي برسالة احتجاج الى مجلة اللانست فنشرت هذه الرسالة وعقبت عليها بأن اقتبست الجزء الاول من مقالة التوتونجي الاولى لعام 1925 وشهدت بأن التوتونجي اول طبيب اقترح معالجة جنون الشلل بالكبريت .
وقد قام الدكتور هاريس نفسه بالاعتذار للتوتونجي بسبب عدم اطلاعه على مقالة التوتونجي المذكورة .
وبتاريخ 25/7/1931 نشرت اللانست بالجزء رقم 5630 الصفحة 200 اسماء الاطباء الذين اشتركوا في ادخال استعمال الكبريت في معالجة جنون الشلل العام وذكرت بأن الدكتور التوتونجي هو صاحب الفكرة الاولى وان الدكتور شرويدر اول من جربها . وبتاريخ 20 اب 1932 نشرت مجلة اللانست نتيجة تجارب الدكتور هاريس والدكتور براكستون هيكس وفيها شهادة لهذين الطبيبين بأن الدكتور التوتونجي اول من فكر باستعمال الكبريت وكذلك تلقى الدكتور التوتونجي رسالة من هاريس مع نسخة من مقالته وفيه اعتذار عن سهوه الاول وانه قد عوض للتوتونجي عن ذلك بمقالته الاخيرة في اللانست .
اما الدكتور شرويدر الدنماركي فلم يعترف بحق التوتونجي بهذا الاكتشاف ونسبه لنفسه فأرسل التوتونجي رسالة احتجاج الى مجلة اللانست لم تنشره بل ارسلته للدكتور شرويدر .
وفي 8 نيسان نشرت هذه المجلة صفحة 784 من الجزء 5719 خبرا خلاصته انها تلقت من الدكتور شرويدر كتابا يؤكد به انه اول من اكتشف طريقة معالجة جنون الشلل بالكبريت وانه لما ظهرت مقالة الدكتور التوتونجي سنة 1925 كان قد عالج مريضين بهذه الطريقة ولكنه لم ينشر نتيجة هذا العلاج في اللانست الا سنة 1929 وانه قبل ذلك اي في عام 1927 القى محاضرة بهذا الصدد بمؤتمر الطب الباطني في مدينة كوبنهاجن وعقبت اللانست على ذلك بقولها ان الفكرة خطرت على الارجح لكل من الطبيبين شرويدر والتوتونجي على حدا وبدون ان يتطلع احدهما على مبحث الاخر وبهذه الطريقة ختمت هذه المناظرة العلمية .
نستنتج مما سبق وبشهادة ممن احترموا تخصصهم من باحثين وعلماء قد اعترفوا بأن التوتونجي هو اول من فكر واستخدم طريقة الحقن بالكبريت بدلا من استعمال ميكروبات البرداء في علاج الشلل العام .
بينما لم يعترف شرويدر بهذا الانجاز العلمي بل نسبه لنفسه ورفض اعتراف رئيس تحرير مجلة اللانست بهذا الاكتشاف مصرا على عدم معرفته بما نشر في المجلة عما بأن اللانست انذاك هي اهم واشهر مجلة طبية في العالم . فكيف لطبيب من الدنمارك المتخصص والمنغمس بالبحث الطبي لا يطالع ما نشر في اهم مجلة طبية في العالم تنشر كل ما هو جديد في عالم الابحاث والاكتشافات الطبية .
سؤال اتركه لحصافة القارئ للاجابة عليه .
ويمكن الاشارة هنا الى أن عدم توفر البيئة الحاضنة للبحث الطبي لا يمنع اصحاب الهمم العالية والتي تغلب عليها مصلحة الوطن والمواطن من عمل واستثمار كل الادوات المتاحة انذاك لاكتشاف ومتابعة كل ما هو جديد بعالم المعرفة لمجابهة الامراض والافات الي كانت تفتك بالاهالي والحد من انتشارها بالمنطقة .
واخيرا وليس اخرا نستطيع القول بأن الامارة الاردنية لم تكن انذاك بعيدة كثيرا عن التقدم الطبي في العالم خاصة عندما تمت هذه المناظرة مع طبيب منغمس في العلم حتى اخمص قدميه وينسب اكتشاف التوتونجي لنفسه . وبهذا الخصوص فقد قمت بنشر كتاب صادر من وزارة الثقافة الاردنية عن دور التوتونجي في تطوير الخدمات الصحية والطبية في اردننا العزيز وقد نشر هذا العام 2021 بعنوان (الدكتور جميل فائق التوتونجي 1896-1981 طبيبا وعالما وانسانا يمكن الاطلاع عليه للاستفادة اكثر عن جهود التوتونجي في تطوير الخدمات الصحية في الاردن .