كأن السياسة الخارجية الأردنية تنتعش بقوة وتستعيد أوقاتا ذهبية هذه الأيام المفعمة بالتحركات الأقليمية والدولية النشطة جدا لجلالة الملك ومحطتها الأخيرة هذين اليومين في لندن.
لعل وصول جميع الأطراف الى مرحلة انهاك وانسدادا لأفق السياسات والخيارات الاستقوائية من عهد الرئيس ترامب فتح الباب للسياسات البنّاءة والمعتدلة التي يمثلها الأردن خير تمثيل. ويمكن وصف زيارات جلالة الملك احيانا بالدفاعية في اوقات الانحسار والتراجع يكون هدفها كسب الوقت وتلطيف الضغوط وتقليل الخسائر لكنها هذه الايام هجومية بامتياز تحمل أفكارا ومبادرات سيكون الاردن طرفا فاعلا ورياديا فيها ونتحدث مثلا عن مستقبل سوريا التي يطور الاردن العلاقات معها بتسارع حاصلا على استثناء من قانون قيصر الأمريكي وهذا بمثابة اذن لجس هذا الطريق تم الحصول عليه بصورة ما في زيارة الملك الأخيرة للولايات المتحدة وقد تلتها زيارة الى القطب الدولي الثاني اي روسيا صاحبة الكلمة الأقوى في المعادلة السورية. وميدانيا تحقق اختراقا مهما في الأيام الأخير بنجدة لبنان عبر سوريا بخط كهرباء هو مهم ايضا لحل مشكلة فائض الطاقة المنتجة لدينا. ومع الأسف فإن الأشياء الجيدة تجد بسرعة من يخرب عليها ونقصد الكلام غير الموفق لوزير خارجية لبنان الجديد الاعلامي جورج قرداحي المحسوب على محور حزب الله وسوريا بما استفز السعودية وقاد الى أزمة حادة معها في وقت يحتاج فيه لبنان الى التضامن معه في ازمته الحانقة.
الاردن على كل حال يغادر مرحلة دفاعية صعبة وعزلة فرضها انعدام الخيارات في مرحلة استقطاب حادة لم يكن ممكنا للاردن أن ينخرط في أي من خنادقها. والحقيقة ان الموقع الجيوسياسي للأردن يحتاج ويصنع كمتطلب وجود وبقاء، سياسة خارجية نبيهة ومعقدة وهي سياسة مهمة بأهمية الموقع الجيوسياسي للأردن والذي أعطاه على الدوام من المكانة ما يتجاوز كثيرا حجمه البلد وإمكانياته. وما بين المخاطر الماثلة التي يجلبها هذا التموضع والفرص والمكاسب المحتملة تشكلت السياسة الخارجية بصورة فريدة وبإدارة مباشرة ويومية من جلالة الملك، والاقتران بين شخص الملك والبلد والقضية التي يمثلها على الساحة الدولية هو نفس الاقتران الذي عرفناه في عهد المغفور له الحسين بن طلال والذي صنع المعجزات على مدار عقود وحتى وفاته التي شهدت آخر معجزة للأردن في الجنازة التي لم يشهدها بلد آخر لزعيمه حتى وصفت بجنازة القرن لكثافة الحضور من زعماء العالم كله.
استمر الأردن في عهد الملك عبدلله الثاني وبسبب موقعه الجيوسياسي نفسه يتقلب بين المخاطر والفرص وفي وضع المتلقي لعواقب الأحداث والتطورات المفروضة من احتلال العراق الى الصراع الدموي في سوريا الى حرب اليمن حولها وحول غيرها وكان يتوجب ادارة الموقف وسط تعقيدات وتناقضات ومخاطر شتى فرضت نوعا من الانكفاء وبالمحصلة اضعاف دور الاردن. والأردن بتكوينه لا يمكن الا ان يكون عروبيا خالصا ولا يمكن في نفس الوقت إلا أن يكون جزءا من المنظومة السياسية والاستراتيجية الغربية بقيادة الولايات المتحدة. وهو أيضا في موقعه الشقيق التوأم والسند الدائم وبالضرورة للنضال الوطني الفلسطيني ملتزما بأهدافه، وفي نفس الوقت يتوجب عليه حفظ وجوده وأمنه واتقاء شر عدوه في ظلّ موازين قوى مختلة بصورة فادحة ولا يمكن تعويضها الا بأن تكون سلامته واستقراره شرطا لأمن الجميع ولاستقرار المنطقة. ولنتخيل أي تعقيد يعني ذلك في ادارة العلاقة مع جميع الأطراف الإقليمية. مع ذلك حدث في تاريخنا وتحت ضغط لحظات لاهبة لم تترك للعقلانية مكانا أن غادرنا مربع الحسابات الدقيقة لصالح الانحياز العاطفي والمبدئي فكان الثمن باهظا جدا.