قد تمر ظروف على أحدنا يشعر معها بالاغتراب حتى وهو (يتبطح) في بيته، وبين أفراد أسرته، حالات نفسية ما لها ارتباط بظروف مختلفة، ويكون وقعها على النفس ثقيلا، لكن ماذا نقول حين يتم نزوح الناس عن بيوتهم وديارهم، إلى داخل الوطن، بلا مقومات حياة تقارن بحياتهم الطبيعية، هذا موقف وظروف أثقل من مجرد شعور بالاغتراب، بل هو لجوء مؤلم، أشد وأنكى من اللجوء السياسي إلى بلاد أخرى، بفعل الظروف السياسية والكوارث الطبيعية التي تقع على بعض الشعوب.. جنبنا الله شرها.
منذ فترة، أرصد جهودا يقوم بها نخبة من أبناء هذا الوطن الطيب الصابر المثابر، تتعلق بموضوع الجلوة العشائرية، التي تحدث حين يشب خلاف ويتمخض عن جرائم قتل وغيرها، وتكون ضحاياه رهط وأحيانا عشيرة من الناس الأبرياء، وقد نجحت الدولة عن طريق هؤلاء الجنود المعلومين بأسمائهم وأفعالهم ومواقفهم، المجهولين فعلا حين نقدر الأثر الإنساني والقانوني الكبير، التي تمخضت عنه مثل هذه الجهود الطيبة.
لم أتمكن أمس من اللقاء بمحافظ العاصمة ياسر العدوان، أحد هؤلاء النخبة، وأحد حراس القيم الفضلى في بلدنا الضاربة جذوره وهويته في الأصالة والنخوة العربية والأخوة الأنسانية، والذي تتناقل بعض وسائل الإعلام ويتناقل المهتمون بعض إنجازاته على صعيد تطبيق وثيقة الجلوة العشائرية، التي حددت عددا قليلا من الأفراد، المطلوب منهم (جلوة ) عشائرية في حال وقعت من قبل أحد منهم جريمة تستوجب منع الاحتكاك بين أهل الجاني والمجني عليه، وعدم شمول الآخرين من عشيرتهم وأقاربهم بالجلوة، ووفق تصريحات المحافظ العدوان، فقد تم حل 25 قضية جلوة عشائرية، رفض بعض المتأثرين بها العودة إلى منازلهم، حيث استقروا في أماكنهم الجديدة، بينما قال العدوان بأنه تمت إعادة 517 شخصا إلى منازلهم في عمان، بعد أن تعرضوا للجلوة في وقت سابق، وتوقع المحافظ إعادة 200 شخص آخر إلى منازلهم خلال الشهر الجاري...
هل يمكننا تقدير حجم الطمأنينة والتوازن والفرح والشعور بالعدالة، الذي ينتاب هؤلاء الناس؟.. مهما تخيلنا فلن ندرك شعورهم الفعلي، فنحن أساسا لم نكن ندرك ولم نتخيل حجم مكابدتهم وعنائهم وفقدانهم للعدالة، حين تم إجلاؤهم من بيوتهم، دونما ذنب اقترفوه، ولا فعل جرمي ارتكبوه بحق أحد، فتم السطو على استقرارهم وطمأنينتهم، وخسرانهم لأعمالهم ومستقبلهم وكل حياتهم التي كانوا يعيشونها في بيوتهم... لا أحد غيرهم يمكنه التعبير عن الفرق بين الحالين.
إن هذه الوثيقة وما تمخضت عنه حتى الآن، واحدة من معارك العدل، وإن شئتم معارك التغيير والإصلاح، تحدث عندنا، ولا يلتفت إليها لا إعلام ولا إدعياء (النشاط.. سياسي او فيسبوكي او بطيخ اقرع)، وهذا أصدق دليل على اختفاء وتعذر وتعسّر الشعور بالناس وبالدولة، فالنشطاء وحتى اللقطاء منهمكون على مدار الساعة بقشور سطحية تافهة، يتبرمون ضد الدولة وكل الحياة، «نشاطات غبية» تعبر عن مدى الضآلة والضحالة، وما يدفعك للدهشة، أن القوم يشتعلون بالصخب والجدل البيزنطي ومختلف انواع الثورات والنضالات حول «صورة»، او موقف هزلي أو إشاعة تافهة، بينما لا يدركون حجم التغيير الذي طرأ على قصة الجلوة واللجوء القسري داخل الوطن، ووقف تخريب وهدر حياة الناس الآمنة..
حين تكتشف نفسك بأنك لا تهتم حقا بمثل هذا المنجز الإجتماعي القانوني السياسي القضائي، الذي يحدث على مرأى ومسمع الجميع، فاعلم أنك تعيش اغترابا عن نفسك ووطنك وهويتك، وكل الشطحات التي تصدر عنك على صفحات العالم الافتراضي، ما هي إلا أعراض مرض، عليك الإسراع في معالجته، حتى تعود مواطنا حقيقيا، يمكنك ان تقول رأيا مؤثرا وجميلا حول التغيير والإصلاح.
إنجازات الحكام الإداريين على كثير من الصعد، لا سيما على صعيد تخفيف آثار الجلوة العشائرية، أهم من كل المعارك (الدونكيشوتية) التي تشترك فيها قسرا كل مكونات وعناصر الدولة، حين يطالب بعضهم بإيجاد تشريع أخلاقي أو حقوقي ما، حتى لو كان الحديث عن منظومة تشريعات سياسية كقانون انتخاب او ادارة محلية وغيرها... كلها تعتبر حديثا جانبيا، إذا ما قورنت بجهود حاكم اداري او وجيه من وجهاء المجتمع، سعى في تثبيت عرف وقيمة أخلاقية، أعادت لبعض المواطنين حياتهم المختطفة بلا قانون او منطق.
بوركت جهود هؤلاء الجنود، الذين يستحقون أصدق تحيات الإجلال والإكبار، فهؤلاء هم الكبار لا غيرهم.