كان لافتاً للانتباه، أن يخاطب وزير الخارجية الأمريكية جون كيري حزب الله بالاسم، وأن يدعوه لبذل “جهد جدي” من أجل حل سياسي للأزمة السورية، وهي الدعوة ذاتها التي وجهها لروسيا وإيران في التصريح ذاته ... المراقبون في لبنان والمنطقة والغرب، انقسموا في تفسير هذا الموقف إلى قسمين: الأول، رأى فيه بادرة إيجابية باتجاه الحزب، أو “نصف اعتراف”، وإقرار بدوره الإقليمي في الأزمة السورية، توطئةً– ربما – لاعتراف كامل ... والثاني، أدرج التصريح في سياق “سلبي” للغاية، يحمل اتهاماً للحزب ويحمّله المسؤولية عن استمرار الأزمة واستطالتها، فأي التفسيرين يبدو مرجحاً؟
أعادتنا التفسيرات المتضاربة لتصريحات كيري، إلى واحدة من نوادر العرب الشهيرة، عن أعرابي ذهب إلى خياط يدعى عمرو، وكان بعين واحدة (أعور)، فخاط له رداء ... وعندما سئل عن مدى رضاه عن جودة الرداء ومهارة الحائك، قال: “خاط لي عمرو قباء ... ليت عينيه سواء”، ومن يومها، حارت العرب في تفسير قول الأعرابي، هل كان يدعو له بالعمى أم بسلامة النظر والبصر.
الذين شاهدوا “نصف الكأس الملآن” في تصريحات كيري، اعتمدوا على جملة تطورات منها: (1) أن واشنطن تتجه إلى تقارب مع إيران في إطار مجموعة “5+1”، والتوافق مع طهران قد ينسحب توافقاً مع حلفائها في المنطقة، وحزب الله هو أكثر من حليف لإيران، وما ينطبق عليها قد ينطبق عليه بالضرورة ... (2) توقيت التصريح جاء متزامناً مع حدثين إقليميين مهمين، أولهما، الشغور الرئاسي في لبنان، والحاجة لموقف الحزب المُيسر لانتخاب رئيس، وثانيهما، الانتخابات الرئاسية السورية التي انطوت على مفاجأة لجهة الإقبال على الانتخابات، وعُدّت انتصارا سياسياً للنظام وصفعة لخصومه... (3) اتجاه واشنطن لانتهاج مقاربة جديدة مع بعض من أدرجتهم في قوائم الإرهاب السوداء: حوار مع طالبان وصفقة تبادل أسرى، واعتراف وتعاون مع حكومة الوفاق الوطني الفلسطينية، والتي ما كان لها أن تُبصر النور، لولا دعم حماس لها، ومشاركتها في تشكيلها.
أما الذين لم يروا في تصريحات كيري سوى “النصف الفارغ من الكأس”، فقد عدّوا تصريحاته، بمثابة حلقة جديدة من حلقات الهجوم المنظم على حزب الله، بوصفه منظمة إرهابية، وفصلاً جديداً من فصول الحرب على محور طهران – دمشق – الضاحية الجنوبية لبيروت ... هؤلاء اعتمدوا على جملة من التطورات في المشهد الدولي والإقليمي، منها أن واشنطن صعّدت منذ زيارة الجربا ووفد الائتلاف من وتائر دعمها للمعارضة السورية مالياً وعسكرياً وتدريبياً ... وأن واشنطن الماضية في طريق “التطبيع” مع إيران، تُميّز بين إيران، الدولة الإقليمية المهمة من جهة وحلفائها من جهة أخرى، وما ينسحب على طهران، لا ينسحب بالضرورة على حلفائها.
على أية حال، سيظل هذا الجدل محتدماً، وستظل الشقة بين القراءتين على اتساعها، إلى أن تقرر واشنطن، ربما بعد الانتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي في نوفمبر القادم، في أية وجهة ستسير في تعاملها مع الأزمة السورية ... لكن في مطلق الأحوال، فإن التفاتة الوزير الأمريكي إلى حزب الله، ووضعه في مصاف اللاعبين الكبار في المنطقة، أمرٌ أثلج صدر الحزب وقادته في مطلق الأحوال، والأرجح أنه يحمل نوعاً من الاعتراف بوجود الحزب وفاعليته، وهذا الاعتراف الواقعي بالخصوم، يمهد عادة لاعتراف رسمي بهم، وحوار معهم، وتعامل قد يفضي للتعاون.
واشنطن تبرر حوارات الدوحة مع طالبان، ولاحقاً صفقة التبادل، بهذه “المقاربة الواقعية”، وهذا الاعتراف الواقعي بوجود الخصم وقدرته، وثمة في واشنطن من انتقد صفقة تبادل الأسرى، لكن ثمة في واشنطن، سياسيون وجنرالات، من رأى فيها سانحة، قد تمهد لحوار مع طالبان، يضمن انسحاباً آمن للقوات الأمريكية من جهة، ويؤمن انتقالاً أقل كلفة لأفغانستان إلى ضفاف الأمن والاستقرار، وهو أمر تريده واشنطن، حتى لا تعود تلك البلاد، إلى دور الحاضنة للإرهاب وأعمال من طراز الحادي عشر من أيلول / سبتمبر.
وفي ظني أن ما أدلى به جون كيري، لم يكن زلة لسان، كما أنه لم يكن نوعاً من الاتهام والضغط إلا بالقدر الذي يمليه “حمل المسؤولية” من التزامات على من يحملها أو يتحملها، فواشنطن تعرف أن حزب الله هو جزء من المشكلة في سوريا، مثل إيران تماماً، ولكنها تريده، وهي التي لا تمتلك أية رؤية استراتيجية للتعامل مع هذه الأزمة، جزءاً من الحل.
وأحسب كذلك، أن تصريحات كيري، إنما تندرج في سياق نظرة أمريكية، بدأت تربط بين الإرهاب وبعض مصادره وحواضنه السنيّة، وترى أن الإسلام السياسي الشيعي، أقل تورطاً في أعماله وأنشطته، الموجهة لأهداف غربية بالأساس ... وثمة جدل يطول ويتشعب حول هذه المسألة، لكن هناك من يجادل بضرورة انفتاح واشنطن على الإسلام السياسي الشيعي، وإبداء الحذر من الإسلام السياسي السنّي، وثمة تجليات واضحة لهذا الخطاب، على الساحة العراقية بشكل خاص، وليس ثمة ما يحول دون امتدادها لساحات أخرى، ومن بينها لبنان.
خلاصة القول، أن واشنطن التي تعتمد تكتيك “إدارة الأزمة” في سوريا و”إدامتها” أطول فترة ممكنة، ما زالت تتخبط في خياراها ومقارباتها، وليس مستبعداً أبداً، أن تكون تصريحات كيري اللبنانية، إيذاناً بولوج عتبات تكتيك جديد، يلحظ التنسيق مع إيران والتعامل مع حزب الله ... ولولا “عقدة” الموقف الإسرائيلي، وخوف سياسيي واشنطن التقليدي من ابتزاز إسرائيل وجماعات الضغط المحسوبة عليها في الولايات المتحدة، لقلنا إن تصريحات كيري، تدشن مساراً جديداً في السياسة الأمريكية، لا حيال سوريا فحسب، بل وحيال لبنان كذلك.