اختار الرئيس الإسرائيلي اسحق هرتسوغ أن يحتفل بعيد "الأنوار" اليهودي في الحرم الإبراهيمي، وقد رافقته في اقتحام الخليل مجموعة من قادة المستوطنين. وادعى خلال هذه الزيارة أن "الارتباط التاريخي للشعب اليهودي بالخليل" وبما يسميه "مغارة المخبيلا" (الحرم الإبراهيمي) "أمر لا شك فيه" وهو "فوق كل خلاف".
وهرتسوغ بهذا الاقتحام المدجج بالسلاح وغلاة المستوطنين يختار أن ينحاز للتيار الأكثر يمينية وتشدداً في إسرائيل مع أنه ينتمي لحزب "العمل" الذي كان رئيسه في السابق. ومن الواضح أن زيارته للخليل في هذا التوقيت وفي ظل إعلان حكومة الاحتلال عن توسيع مستوطنة "كريات أربع" ببناء 372 وحدة سكنية فيها وهي المقامة على أراضي مدينة الخليل هي محاولة لإظهار أنه رئيس كل الإسرائيليين وخاصة الجهات اليمينية حتى ترضى عنه ويبرئ نفسه من تهمة الانتماء لحزب محسوب على اليسار الصهيوني.
الرسالة التي يرسلها هرتسوغ للإسرائيليين وللفلسطينيين ولكل العالم هي أن إسرائيل لا تفكر إطلاقاً على ما يبدو بإنهاء احتلالها للضفة الغربية والقدس الشرقية. وتصر على الاستيطان وتهويد المناطق المحتلة وقتل فكرة حل الدولتين وهي تأتي عشية إحياء الفلسطينيين والعالم المؤيد لحقوقهم العادلة يوم التضامن مع الشعب الفلسطيني. وللأسف لا توجد ردود فعل فلسطينية ترقى لحجم الخطر المحدق بالقضية الفلسطينية جراء سياسة السلطات الإسرائيلية وجرائمها اليومية بحق الشعب الفلسطيني الذي تنتهك حقوقه الأساسية الوطنية والسياسية والإنسانية بشكل منهجي وعلى مدار الساعة.
عشية اقتحام الرئيس هرتسوغ للحرم الإبراهيمي سمعنا تهديدات وبيانات وشعارات، جزء منها يشبه زيارته بزيارة شارون للمسجد الأقصى التي أشعلت الانتفاضة الثانية. ولكن لم يكن هناك تحرك يذكر لمحاولة منع الزيارة أو التشويش عليها. ونحن هنا لا نتحدث عن المقاومة المسلحة بل عن أشكال من المقاومة السلمية كتظاهرة كبيرة تسد الطريق على هرتسوغ وتمنعه من زيارة قلب مدينة الخليل بالحد الأدنى، فأين هي التنظيمات التي تتسابق لإصدار البيانات، وأين السلطة التي ينبغي أن تتخذ موقفاً ما، ليس من أجل أي شيء سوى إنقاذ ما تبقى من أفق لحل الدولتين أو بالأحرى إبقاء خيار قيام دولة فلسطينية على الأراضي المحتلة منذ العام 1967 حياً وقابلاً للتطبيق.
لقد أضحينا مجرد مطلقي شعارات بائسة، اللهم باستثناء الأبطال الذين يقومون بالتصدي للاستيطان في بعض البؤر الساخنة مثل قرية بيتا وفي أحياء القدس وبعض الأماكن على نطاق ضيق، وخلاف ذلك تبقى مواقف رنانة لا رصيد لها، حتى فصائل المقاومة في غزة أضحت تكرر نفسها ولا أجندات مختلفة تماماً عن الهموم الوطنية ودخلت في حروب ومواجهات لم تكن مفيدة لدفع مسيرة الحل السياسي وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي البغيض، ولم تستطع حتى مساعدة المواطنين في قطاع غزة على الحصول على شروط حياة إنسانية ملائمة. وبعيداً عن الشعارات تدهورت أوضاع الناس وصاروا يبحثون عن خلاص من المشكلات والهموم الاقتصادية والاجتماعية والإنسانية بأي ثمن. ولبالغ الأسف أصبحت إسرائيل لا تأخذنا على محمل الجد لا بتهديداتنا ولا بدعواتنا وتوسلاتنا.
ومن غير الممكن أن يتعامل معنا طرف في هذا العالم بصورة جدية إذا لم نقم بتغيير واقعنا الذي نعيش على أكثر من مستوى وصعيد، وكلمة السر الأولى في هذا التغيير هي الوحدة الوطنية المفقودة والتي على ما يبدو أمست بعيدة المنال. والأمر الثاني المهم لإحداث تغيير يجعل الإسرائيليين والعالم أجمع ينظرون لنا بصورة محترمة وجدية هي استعادة الثقة بين القيادات والشعب، وهذا لا يتم بالشعارات بل بعمل ملموس يقنع الناس ويبدأ بإصلاح حقيقي في مؤسسات صنع القرار وإدارة حياة المواطنين. وهذا يتطلب انتخابات وتغييرا حقيقيا في تركيبة المؤسسات القائمة. وبين الوحدة والإصلاح رابط مهم جداً.
الواقع الذي نعيش يشجع ليس فقط هرتسوغ بل ورئيس الحكومة نفتالي بينيت ووزيرته أيلييت شاكيد وغيرهم من قادة إسرائيل على الحديث علناً ودون خجل أو خشية عن الإعلان عن استحالة التسوية مع الفلسطينيين وأن الحل الأمثل هو استمرار التطبيع مع الدول العربية التي تهرول نحو إسرائيل وتنسى كل شيء دون ذلك حتى قراراتها ومشروعها السياسي للتسوية، وخاصة مبادرة السلام العربية. بل ويشجعهم على تطبيق عملي وهادئ لـ"صفقة القرن"، التي تقوم على دولة في غزة ومعازل في الضفة الغربية. والتوجهات الإسرائيلية الراهنة تذهب باتجاه تعزيز فكرة دولة غزة وبانفتاح كبير تجاهها، والذي يحول دون الذهاب بشكل سريع نحو التطبيق الفعلي لهذا النموذج هو وجود أسرى إسرائيليين في غزة. وفي اللحظة التي تحل فيها هذه المسألة سنرى تطبيقاً سريعاً للمشروع الذي بدأ بخطوات بطيئة بعض الشيء ولكنها تتطور باستمرار. أما الضفة بما فيها القدس المحتلة فهي للتقسيم وبقاء السيطرة الإسرائيلية على معظم أجزائها. فلنستمر بالشعارات ودوامة الأكاذيب فهي تكفي لضياع كل شيء!!