نقترب من إقفال عام واستقبال عام جديد، وليس أمام الفلسطينيين سوى الدعاء، والتفاؤل بعام أفضل. لكن لسان الحال يقول إن تدهور الأوضاع لم يصل إلى القعر. ينتهي العام باحتفالات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وحركة حماس بانطلاقتهما، مرفوقة بإحياء ذكرى الانتفاضة الشعبية الكبرى، ويستقبل الفلسطينيون العام الجديد باحتفالات الشعب الفلسطيني بانطلاقة الثورة الفلسطينية وحركة فتح، والتي تدشن أياماً أخرى لإحياء مناسبات تأسيس الجبهة الديمقراطية وحزب الشعب. مهما قيل من انتقادات بحق الفصائل، ومسؤولياتها عن الأوضاع المتردية التي يعاني منها الشعب الفلسطيني، إلا أن مثل هذه الانتقادات لا يمكن أن تنال من الأهمية التاريخية القصوى التي تحظى بها، والدور العظيم الذي تنهض به لتحقيق أهداف الشعب الفلسطيني.
يؤخذ على المشهد الفصائلي، كثرة وتنوع هذه الانطلاقات والمسميات، وتداخل بل وتكرار البرامج والأفكار، ولكن ذلك أيضا يقدم دليلا آخر، على حيوية الشعب الفلسطيني، واستعداده للتضحية من أجل أهدافه الوطنية المشروعة وقدرته الفائقة على البقاء رغم تنوع وخطورة المخططات الاستعمارية، التي استهدفت ولا تزال تستهدف وجوده.
ومع نهاية العام، تواصل الجمعية العامة للأمم المتحدة، اتخاذ المزيد من القرارات لصالح الشعب الفلسطيني وحقوقه، ويلفت النظر، أن معظم تلك القرارات أصبحت تحصل على ما يزيد على مئة وستين صوتاً. قد لا يعني ذلك أن المجتمع الدولي أصبح قادراً على حماية قراراته وتنفيذها، ولكن ذلك يعني أن السياسات الأميركية والإسرائيلية تعاني من عزلة متزايدة، يتزايد معها التضامن الدولي مع الشعب الفلسطيني وحقوقه، ما لا يمكن الاستهانة به.
لا أقصد من وراء ذلك، القيام بعملية تقييم للعام المنصرم، فتلك مهمة تحتاج إلى مساحة أوسع، وجهد أكبر وأعمق، وربما لا أرغب في فتح الجراح على الوقائع المؤلمة التي عاشها الشعب الفلسطيني وقواه الوطنية جراء السياسات العنصرية والتوسعية الصهيونية.
من المؤسف أن ينتهي العام، بحديث إجرامي مؤسف، يفاقم من حالة التوتر والصراع بين حركتي حماس وفتح في لبنان، ما ينطوي على خطورة فائقة تتجاوز ما عشناه ونعيشه من صراعات على مستوى الانقسام وتأثيراته، الذي تشهد الساحة الفلسطينية فصوله على مدار الوقت.
أصل الحدث المؤلم جاء نتيجة تفجير خطير، في أحد مخازن السلاح التابعة لحركة حماس في مخيم البرج الشمالي جنوب لبنان ما كان سيمر دون تداعيات، على مستوى الوضع اللبناني والعلاقات الفلسطينية ـ اللبنانية. لكن الوضع اتخذ منحىً خطيراً حين تعرض المشيعون لإطلاق نار أدى إلى استشهاد بعض المشيعين وإصابة آخرين.
ثمة جانبان لهذه الأحداث الخطيرة: الأول، يتعلق بتوتر العلاقات بين حركتي فتح وحماس، على خلفية اتهام "حماس" لعناصر من الأمن الوطني التابع لحركة فتح، بارتكاب جريمة إطلاق النار، وما تلا ذلك من إعلانات متقابلة، لوقف كافة أشكال ووسائل الاتصال والتواصل بين الحركتين.
تتواصل الاتهامات بالرغم من أن حركة فتح، والسفير الفلسطيني في لبنان أشرف دبور، وكذا فصائل المنظمة، أدانت الجريمة ومرتكبيها منذ الساعات الأولى لوقوعها.
ولاحقاً، أعلنت حركة فتح أنها مستعدة للتعاون الكامل مع السلطات اللبنانية، وتسليم المشتبه به، ومساعدة أجهزة الأمن والقضاء اللبناني في التحقيقات التي لم تصل إلى نتائج بعد.
الطرفان الفلسطينيان (فتح وحماس) يؤكدان التزامهما بالقانون اللبناني وبمسؤولية أجهزة الأمن اللبنانية الكاملة في متابعة هذا الملف، والالتزام بسقف القانون اللبناني، لكن ذلك لم يؤد إلى تهدئة الأوضاع بين الفلسطينيين.
إذ لا مجال لتأكيد صحة الاتهامات الموجهة لهذا الطرف أو ذاك بما أنه أمر في عهدة الأمن والقضاء اللبنانيين، إلاّ أننا من حيث المبدأ نشير إلى التالي. من حيث المبدأ لا يمكن بأي حال لعقل فلسطيني أن يقبل مجرد التفكير في أن يقوم فلسطيني بإطلاق النار على فرح أو جنازة فلسطينية أو غير فلسطينية، فتلك حين تقع تكون من الجرائم التي لا يمكن التسامح معها إطلاقاً. حين يقع مثل هذه الجرائم، يقفز إلى الذهن أن الاحتلال هو صاحب المسؤولية الأولى عن مثل هذه الجرائم بهدف تعميق حالة الصراع بين الأطراف الفلسطينية الفاعلة، وللتحريض على الوجود الفلسطيني في لبنان، وعلى المقاومة.
في هذا السياق، لا ينبغي تجاهل إمكانية أن يكون العمل فردياً أو أنه يشير إلى حالة اختراق إسرائيلية، وذلك أمر لا يمكن استبعاده والكل يعلم بالتجربة، قدرة الأجهزة الأمنية الإسرائيلية على اختراق الأوضاع الفلسطينية. ثمة متهم آخر، وهو قوى اليمين الطائفي اللبناني التي لا تفوت فرصة للتآمر على الوجود السياسي والاجتماعي الفلسطيني، انطلاقاً من حسابات الديموغرافيا الطائفية، وتحت شعار رفض التوطين. نلاحظ أن الجريمة ارتكبت، بعد قرار وزير العمل اللبناني، الذي أعلن عن رفع المنع عن عمل الفلسطيني في لبنان، الذي ظل ممنوعاً بقرارات كان اتخذها بشير الجميل حين أصبح رئيساً للجمهورية العام 1982.
في المحصّلة فإن على الطرفين (فتح وحماس)، أن يسلكا الطريق الذي يحافظ على وحدة الفلسطينيين، والحرص على أوضاعهم في المخيمات، وعدم إتاحة الفرصة لمزيد من استنزاف القوة، طالما أن "فتح" مستعدة لرفع الغطاء عن الفاعلين، وطالما أن الكل يعترف بأحقية الأمن والقضاء اللبنانيين في متابعة الملف. الأمر الآخر لا ينفصل حيث تمر الساحة اللبنانية بمنعطف خطير، حيث يتصارع الكثير من القوى الإقليمية واللبنانية الداخلية في سياق تجاذب القوى حول حزب الله، فضلاً عن المشهد العام في المنطقة بخصوص العلاقة مع إسرائيل ومفاوضات إيران مع الكبار، والذي يترافق مع تهديدات إسرائيلية جدية سواء لإيران أو لمن تقول إسرائيل إنها قوى مرتبطة بإيران مثل "حزب الله" و"حماس" والجهاد الإسلامي.
مكان وقوع الحدث أمر مهم، إذ إنه مشمول بالترتيبات المتعلقة بقرار مجلس الأمن الدولي رقم (1701)، إثر حرب حزيران على لبنان العام 2006. يستهدف تحريض قوى اليمين الطائفي اللبناني، عملياً وضع "حزب الله"، وفصائل المقاومة الفلسطينية في مربع الاتهام، بأنهما يتجاوزان محددات القرار (1701)، الذي لا يسمح بوجود أسلحة ومعدات حربية في منطقة نفاذه.
إسرائيل تبحث عن مبررات، لتسويغ حروبها وعدواناتها وبالتالي فإنها قد تستفيد من هذه الجريمة وتداعياتها ليس فقط لتبرير حروبها وإنما لتحريض المجتمع الدولي والإقليمي ضد المقاومة اللبنانية والفلسطينيين، لا أعتقد أن هذه الحسابات غائبة عن أطراف الفعل الفلسطيني. لكن السلوك العملي لا يشير إلى أن الأمور تسير في الاتجاه الذي يفوت على الأعداء فرصة استغلال المشهد الفلسطيني، والفلسطيني - اللبناني المؤسف.