رغم أن زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي جاك سوليفان لإسرائيل قبل أسبوع، لم تكن هي الزيارة الأولى له، إلا أنه وقبل أن يصل المسؤول الأميركي تل أبيب، أعلن موظفو البيت الأبيض، أنه سيناقش مع المسؤولين الإسرائيليين تطورات مباحثات فيينا حول الملف النووي الإيراني، ورغم البيان المشترك بين الطرفين الذي اعتبر أن تقدم إيران في ملفها النووي يعتبر تهديداً للأمن والاستقرار في المنطقة، إلا أن تكرار زيارات سوليفان وأكثر من مسؤول أميركي رفيع المستوى خلال العام الأول من ولاية جو بايدن، كذلك ما تسرب عبر الصحف الإسرائيلية عما وقع بين الطرفين من حوار خلال الزيارة يؤكد أن هوة الخلاف بين البلدين في هذا الملف، فضلاً عن ملفات أخرى ما زالت قائمة، هذا إذا لم تكن تزداد أصلا.
الغريب في الأمر والمثير لحنق العالم هو أن إسرائيل هي الدولة الوحيدة من دول الشرق الأوسط، بل من بين دول العالم، التي تتدخل في هذا الملف الذي تديره الدول العظمى، أي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، وهي إضافة للولايات المتحدة، كل من روسيا والصين، بريطانيا وفرنسا، إضافة لألمانيا، والغريب أكثر هو أن الدول الأربع الشريكة في الاتفاق تريد التوصل لاتفاق يسمح بالعودة لاتفاق العام 2015، الذي توصلت إليه مع كل من إيران وأميركا، بل إن الولايات المتحدة نفسها، أعلنت منذ فوز بايدن بمنصب الرئيس نيتها التراجع عن التنصل الذي قام به دونالد ترامب العام 2018 من الاتفاق بتحريض من إسرائيل.
وبالعودة إلى زيارة سوليفان لتل أبيب، لوحظ أنها تضمنت لقاء نظيره الإسرائيلي في إطار ما يعرف بمجلس التنسيق الاستراتيجي بين البلدين، والرئيس إسحق هيرتسوغ، قبل أن يلتقي رئيس الحكومة نفتالي بينيت، حيث أظهر الإسرائيليون موقفا موحدا تجاه الملف الإيراني، لكن ورغم أن البيان المشترك الذي أعلن عقب لقاءات المسؤول الأميركي بالإسرائيليين، والذي اعتبر «تقدم إيران بملفها النووي يهدد الأمن والاستقرار في المنطقة»، أي أنهما يتفقان حول نقطة محددة، وهي وقف التقدم الإيراني بعدم مواصلة تخصيب اليورانيوم، بما يعني أن الخلاف ما زال قائماً بينهما، حيث إن واشنطن تعتقد أن اتفاق 2015 يقطع طريق طهران نحو القنبلة النووية، في حين تعتبر إسرائيل أن مواصلة طريق العقوبات الاقتصادية والتلويح بالحرب ضد إيران هو الطريق الأنسب لتحقيق ذلك الهدف.
أي أن كلاً من إسرائيل والولايات المتحدة تتفقان، فيما هو معلن على الأقل على الهدف، وتختلفان حول الطريقة لتحقيق ذلك الهدف، ولم تغير من هذا الخلاف أو حتى تقلل منه كل تلك الزيارات المكوكية بين الجانبين التي جرت طوال العام الحالي الذي يوشك على الانتهاء.
وفي حقيقة الأمر، فإن ما كان يظهر عبر عقود مضت من تحالف استراتيجي خاص بين البلدين، رغم أن إحداهما دولة عظمى، بل هي أعظم دولة في العالم عسكرياً واقتصادياً، في حين أن الأخرى مجرد دولة صغيرة، معزولة إقليميا، كان يعني أن إسرائيل هي دولة تابعة لأميركا، بل اعتبرها البعض نظراً لما تحتله من مكانة متميزة عند الولايات المتحدة، تختلف عما تحتله كل صديقاتها إبان الحرب الباردة، اعتبرها البعض الولاية الأميركية الواحدة والخمسين، أي أنها في الوقت الذي تتمتع فيه بالحرية في تقرير شأنها الداخلي، فإنها فيما يخص السياسة الخارجية تلتزم بالسياسة الأميركية، أو بخطوطها العامة، وكانت مكانة إسرائيل لدى واشنطن مبعثها استخدام واشنطن لها كهراوة أو كَيَدٍ غليظة متقدمة في منطقة النفط، لإخضاع الأنظمة المتمردة أو المعادية لأميركا والمحسوبة على المعسكر الشرقي، لكن مع انتهاء الحرب الباردة، فإنه من الطبيعي أن تتراجع الحاجة الأميركية لإسرائيل فيما يخص الدفاع عن مصالحها في الشرق الأوسط.
وإذا كانت إسرائيل تبني كل موقفها تجاه الملف الإيراني على أساس التهديد الإيراني المفترض ضدها، فإن مثل ذلك التهديد لا يمس أميركا لا من بعيد ولا من قريب، أما وأن الدافع الحقيقي لإسرائيل هو توسيع نفوذها في الشرق الأوسط والشرق الأدنى، فضلاً عن أفريقيا، لذا فإنها تريد أن تزيح من طريقها من تعتبره منافساً لها، لذا فإن ما تخشاه هو ما ستحققه إيران من تنمية اقتصادية جراء امتلاك الطاقة النووية وليس من قوة عسكرية، تمتلك هي أضعافها من خلال أكثر من 90 رأساً نووياً ما زالت في الخدمة، وهذا بالطبع أمر لا يهم واشنطن، التي في حال واصلت خروجها من المنطقة، فإنها لن تقاتل من أجل تحديد من يكون وريثها في الهيمنة على المنطقة.
لم تبدد زيارة سوليفان لتل أبيب الخلاف بين البلدين حول كيفية التعامل مع الملف الإيراني، وهذا ما قالته صحيفة هآرتس الإسرائيلية، التي أشارت إلى أن الزيارة بالعكس قد عمقت الخلاف، لكن الأمر لم يبق بين الطرفين فقط، ذلك أن الحرس الثوري الإيراني أجرى مناورات عسكرية في نفس توقيت زيارة مستشار الأمن القومي الأميركي لإسرائيل، كذلك فإن سوليفان لم يكتفِ بزيارة إسرائيل وحسب، بل عرج على رام الله، والتقى الرئيس محمود عباس، بما يعني أن واشنطن تختلف مع إسرائيل أيضاً، وربما بدرجة أكثر فيما يخص العلاقة مع السلطة الفلسطينية، التي تصر حكومة نفتالي بينيت على مقاطعتها، وهذا رغم أن مساعدة وزير الخارجية الأميركي يائيل لمبرت التقت الرئيس عباس، قبل يوم واحد من لقائه سوليفان، لكن لقاء سوليفان والرئيس عباس، لم يقتصر على تلك الإشارة وحسب وفق تقديرنا، بل إنه جاء كمحاولة من واشنطن للتخفيف من التوتر الذي تحدثه حكومة بينيت بتهييج المستوطنين وإثارة المنطقة ضد طهران، بما يتوافق مع الجهود المصرية الموازية لتهدئة أجواء غزة، وذلك لتمرير الاتفاق مع إيران دون أن تنجح إسرائيل في إحباطه أو عرقلته عبر اندلاع حرب إقليمية أو داخل الأرض الفلسطينية المحتلة.
ورغم أن إسرائيل قد أخفقت حتى الآن، في منع، ثم في وقف مباحثات فيينا، النافية للتنصل الأميركي من الاتفاق، إلا أنها حققت نجاحات أخرى بسبب ضغطها على واشنطن، ويظهر عدم إقدام أميركا حتى اللحظة على فتح قنصليتها في القدس كنجاح لحكومة بينيت، كذلك عدم إقدام واشنطن على ممارسة الضغط الكافي لوقف إرهاب المستوطنين، وتردد واشنطن في إحباط الانقلاب العسكري السوداني، لكن إسرائيل لن تنجح في منع واشنطن من العودة للاتفاق النووي مع إيران، ذلك أن البيت الأبيض عادة ما يكون قوياً في النصف الأول من ولايته الأولى، أي أن أمام بايدن عاماً آخر لينجز فيه ما يريد دون ضغط من إسرئيل، قبل انتخابات الكونغرس النصفية، هذا مع العلم بأن مواقف الناخبين خاصة اليهود الأميركيين تجاه إسرائيل قد تغيرت كثيراً، ولم تعد تؤيدها بعيون لا ترى احتلالها وقمعها وعنصريتها.