لا أعرف إذا كانت إسرائيل منذ تأسيسها شهدت كما تشهد اليوم هذه الدرجة من "الفوضى" السياسية، لكن الشيء المؤكد أن إسرائيل تدخل في "بازار" سياسي فريد من نوعه، وهي دخلت بالفعل إلى نفق سياسي يصعب التنبؤ بنهايته، ويصعب أيضاً معرفة إن كان الخروج منه سيعني بالضرورة التوصل إلى حلول معينة أم انه سيعني أيضاً الدخول إلى نفق أطول وأعمق.
لقد حاول نتنياهو على مدى السنوات السابقة أن "يسوّق" على المجتمع الإسرائيلي مقولة "الخطر" الإيراني، مدعياً أن حل القضية الفلسطينية ليس له أية أولوية في سلّم الاهتمامات الماثلة أمام المجتمع الإسرائيلي.
وبمناسبة ثورات "الربيع العربي" "أكد" نتنياهو أن أحداً في العالم العربي لم يعد يهتم بالقضية الفلسطينية، وان جلّ اهتمام الشعوب العربية بات منحصراً في المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي أدت إلى اندلاع الثورات.
أما تفسير نتنياهو باهتمام الولايات المتحدة وكذلك أوروبا وبقية أطراف المجتمع الدولي بالبحث عن حل سياسي للصراع الفلسطيني الإسرائيلي هو مجرد "رفع عتب" في الحالة الأميركية ومجرد حالة تزلّف ونفاق في الحالة الأوروبية والدولية الأخرى.
مع انهيار نظرية نتنياهو حول الخطر الإيراني، ومع الذهاب إلى مساومة تاريخية غربية مع إيران (ما زال يعدّ لها على نار هادئة) ومع تقدم الولايات المتحدة بمواقف جدية حيال البحث عن حل سياسي لهذا الصراع (بغض النظر عن امتلاك الولايات المتحدة لإرادة تحقيقه، أو لنقل بغض النظر عن درجة استعداد الولايات المتحدة لممارسة الضغط على إسرائيل لفرضه.... بغض النظر عن ذلك، عاد نتنياهو ـ دون أن يعترف بانهيار نظريته ـ للحديث عن استعداده للتعاطي مع هذا الحل.
أدرك نتنياهو أنه قد حشر في الزاوية ولم يعد أمامه سوى الدخول في معترك الحديث عن الحل بهدف منعه أو تفصيله على هوى اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، وهو الأمر الذي جعله يعدّ لهذه الاستراتيجية ـ استراتيجية منع الحل، أمر فرضه بالشروط اليمينية ـ كل ما من شأنه تسهيل مهمته بمنع الحل.
وكما هي عادة كل الهواة أو أنصاف القيادات وأشباه الزعماء لجأ نتنياهو للخديعة التي ستشكل (من وجهة نظره) الواجهة التي سيخفي من خلفها خطته الحقيقية.
كانت هذه الخديعة محاولة هي إيهام المجتمع الإسرائيلي والعالم بقبول مبدأ حل الدولتين مقابل شروط تنهي من حيث الجوهر أية إمكانية لهذا الحل قبل أن يبدأ.
اعتقد نتنياهو ـ كما هو شأن أقطاب اليمين ـ أن تسويق مبدأ القبول بحل الدولتين سيجنبه "الجدل" في إسرائيل وانه سيلعب على الحبال لإسكات الأصوات المطالبة به من جهة والأصوات التي تطالب بفرض الشروط الإسرائيلية للقبول به من جهة أخرى.
عندما بدأت كفة الترجيح تميل لصالح الحلول "الوسط" للشروط الإسرائيلية مع أن هذه الحلول لم تكن سوى انحياز سافر لصالح هذه الشروط من قبل الولايات المتحدة تحديداً لجأ نتنياهو إلى شروط جديدة تمثل أهمها في "مشروع" الدولة اليهودية علّه بذلك يعيد إلهاء الولايات المتحدة والمجتمع الإسرائيلي بهذه الملهاة الجديدة، وعلّه أيضاً يتمكن من إرباك الساحة الفلسطينية وإحراج موقفها.
فشلت هذه المحاولة أيضاً من خلال الموقف الفلسطيني الرافض بكل وضوح وصلابة، ومن خلال الرفض العربي الشامل لها، ومن خلال عدم حماسة الموقف الأوروبي للتعاطي معها، ومن خلال اعتبار الولايات المتحدة لها شرطاً مؤجلاً لاتفاقية "إنهاء" الصراع وليس للتفاوض على إنهائه.
انهارت نظرية نتنياهو حول الشروط (جزئياً) وانهارت نظرية نتنياهو حول "أولوية" الاعتراف بالدولة اليهودية (مؤقتاً على الأقل) ولم يتبق أمامه سوى مسألة الشريك الفلسطيني والمصالحة. حاول نتنياهو كل ما يمكن أن يقال وكل ما يمكن فعله أيضاً فإذا بالولايات المتحدة تعلن عن نيتها (التعامل مع حكومة التوافق) وإذا بأوروبا تعلن عن دعمها الكامل للخطوة، ناهيكم عن بقية دول العالم من عربية ـ إسلامية وأخرى كثيرة وكبيرة.
لم يعد أمام نتنياهو إلاّ أن ينسحب من المفاوضات ويبدأ موجة جديدة من الاستفزازات الاستيطانية واللعب بالأوراق الحساسة مثل ورقة المسجد الأقصى وقتل المتظاهرين وغيرها من الممارسات الواضحة في استهدافاتها المباشرة.
وعندما لم يجد نتنياهو ما يكفي من ردود الأفعال (المنشودة) شرع بالتصريح والتلميح "للانسحاب" المسبق والأحادي من بعض المناطق وأخذ النقاش يدور في إسرائيل حول "جدوى" هذا الانسحاب من عدمه وحول جدوى الضم من عدمه وحول أهمية وأولوية يهودية الدولة من عدمها وحول أولوية الاستيطان من عدمه، وحول أهمية الأغوار الأمنية الاقتصادية، وحول كل شيء يتعلق بالصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
إن هذه الفوضى السياسية (بغض النظر إن كانت خلاّقة أم عبثية) قد أوقعت نتنياهو في المصيدة التي طالما اعتقد أنه أعدها للآخرين.
الواقع أن كل نظريات نتنياهو قد انهارت واحدة تلو الأخرى، وأغلب الظن أنه لم يعد يمتلك شيئاً ليقوله سوى الإقرار بأن الحلّ الوحيد هو اللجوء إلى صندوق الاقتراع، إذ انه ما زال يمتلك رصيداً كافياً حتى الآن أو التحول إلى ألعوبة سياسية في يد الكبار والصغار معاً على طول وعرض الخارطة السياسية في إسرائيل.
فإذا خسر يائير لابيد فإنه لن يربح بينيت، وإذا استمال حزب العمل فإنه سيخسر ليبرمان وبينيت معاً، وإذا تمسك بالحركة فلن يساعده ذلك في شيء على الإطلاق، وإذا ارتهن لقرار الليكود فسيكون هو بالذات الخاسر الأكبر، لأن الليكود لا يملك من صفات الموقف الموحد شيئاً يذكر على الإطلاق.
في إسرائيل فوضى سياسية شاملة وبازار سياسي غير مسبوق والسبب الوحيد والأوحد هو الصراع مع الشعب الفلسطيني وحقوق وأهداف الشعب الفلسطيني.
أليست هذه قمة المأساة لواحد مثل نتنياهو اعتقد أنه تحول في السنوات الأخيرة إلى زعيم سياسي بحجم قياداتها التاريخية...!!؟
أغلب الظن أن نتنياهو هو شخص ساذج اعتقد أن الزعامة مسألة تتعلق بالقدرة على اختراع الألاعيب، وهذه هي مأساة إسرائيل هذه المرة.