يعيد بعض خصوم المالكي في العراق، إنتاج ذات الأخطاء والخطايا التي قارفها خصوم الأسد، معظمهم حتى لا نقول جميعهم، في سوريا ... الخطأ يبدأ بـ “إنكار” وجود القاعدة بمسمياتها المختلفة من داعش إلى النصرة، مروراً بغيرهما ... والخطأ يتحول إلى خطيئة، حين يظن البعض أن بمقدوره الاستقواء بالقاعدة وتوظيفها لتعديل موازين القوى، أو ربما لتسريع إسقاط أو تغيير النظام، ودائما على قاعدة “عدو عدوي صديقي”، وبذريعة “الشيطان ولا النظام”.
والحقيقة أن هذا الخطأ/ الخطيئة، هي رد فعل غريزي على محاولات النظامين في بغداد ودمشق، “شيطنة” المعارضات و”تدعيشها” ... من يتابع الخطاب السياسي والإعلامي السوري، لا يجد فيه أثراً للمعارضة، حتى معارضة الداخل باتت “غير وطنية” و”خائنة” و”داعشية” لمجرد أنها قررت مقاطعة الانتخابات الرئاسية ... لا أحد جيد في سوريا غير الموالين بالمطلق للنظام، والمؤيدين من دون تحفظ لسياساته وخياراته الكبرى، باعتبارها خيارات الشعب والأمة.
الشيء ذاته تكرر مع المالكي وحكومته ... فهو أدار البلاد طوال السنوات الثماني الفائتة، بروحية مذهبية، اختصرت العراق بالشيعة، والشيعة بـ “الدعوة”، و”الدعوة” بالزعيم مطلق الصلاحيات ... أما خصومه، خصوصاً من العرب السنة، فليسوا سوى داعشيين وإرهابيين، فيما الأكراد يتصرفون بخبث وتآمر وأجندات خارجية، لتطال سهام النقد بعد ذلك، كل من خاصمه من قيادات وأحزاب المكون الشيعي الرئيس في البلاد.
وأحسب أنه ما كان لدعاية النظامين أن تنجح، وأن تكسب صدقية واسعة، خصوصاً في العراق، لولا مسلسل الأخطاء والخطايا التي قارفها الناطقون والممثلون للمكون العربي السني في العراق ... بدأت الحكاية في ميادين الاعتصام في الأنبار والفلوجة، وما تزال مستمرة على أية حالة، بإنكار النفوذ المتعاظم لـ “داعش” أو التقليل من شأنه، وانتهت إلى التصريح بأن كل شياطين الأرض أفضل من المالكي، ومن ثم تطور الموقف إلى المناداة بالفيدرالية ورفع شعار “تقرير المصير” على ألسنة بعض الشيوخ والمكونات السنية، ما أظهر ويظهر المالكي، بوصفه الأكثر حرصاً على وحدة العراق، والمقاتل الذي لا تلين له قناة، ضد الإرهاب.
وهذا ما حصل من قبل في سوريا، فالخطاب الرسمي هناك، يُظهر النظام بوصفه أم الولد وأباه، وهو الأشد تمسكاً بوحدة الأرض والشعب والسيادة والاستقلال، حامي حمى العلمانية والتعددية، دع عنك حكاية المحارب الأقوى للإرهاب بكل صنوفه.
في سوريا، خسرت المعارضة والحركة الشعبية جراء انجرافها للعسكرة والتسلح وطلب التدخل الأجنبي وعرض فكرة التحالف مع مختلف “شياطين الأرض” ... خسرت المعارضة في البدء لتعاونها مع داعش، ولاحقاً (وحتى يومنا هذا) لتحالفها مع النصرة، وتصديها لجميع محاولات إدراجها على لوائح الإرهاب السوداء، حتى إن حصول المعارضة على سلاح كاسر للتوازن، باتت تحول دونه فقط، الخشية الدولية المتعاظمة من خطر انتقاله إلى “الأيدي الخطأ” ... وفي ظني أن تسونامي داعش في العراق، سيزيد من مخاوف المجتمع الدولي حيال تسليح المعارضة في سوريا، وسيعزز مواقع الأسد كما قلنا في مقالات سابقة.
أما في العراق، فالصورة تبدو أشد تعقيداً مما هي عليه في سوريا، فالمجتمع الدولي الذي يدرك أن ثمة حراكا داخل المحافظات السنيّة، لم “يشتر” سوى رواية “داعش”، فهو لا يرى إلا راياتها السوداء، ولا يقرأ سوى تعليماتها لنساء الموصل بالاحتشام والتزام مخادعهن ... الحركة بمجملها مصبوغة بهذا اللون الأسود ... ويزيد الطين بلّة، خروج بعض الأطراف الأخرى في هذه المحافظات للتبرير و”التهوين” من خطر داعش ودورها ونفوذها.
وحكاية أن “العرب لا يقرأون” تجد ما يبررها في المشهدين السوري والعراقي على حد سواء ... لا أحد يتعلم من دروس غيره، ولنا في الماضي القريب درس آخر من الشيشان، عندما كادت الحركة الاستقلالية أن تنجح في بناء الدولة وانتزاع “تقرير المصير” في النصف الأول من تسعينيات القرن الفائت، وكاد المجتمع الدولي المأخوذ بتجربة استقلال الجمهوريات والأمم عن الاتحاد السوفييتي القديم، أن يعترف بدولة مستقلة للشيشان على أرضهم، لكن دخول القاعدة و”خطاب” على خط الحركة الشيشانية، وبقوة، وجنوح بعض القوى الوطنية والديمقراطية الشيشانية للاستقواء بالسلفية الجهادية ضد موسكو، وتوفر بيئة اجتماعية – دينية حاضنة، كاد معها “الدين” أن يتماهى مع الهوية القومية، أفزع المجتمع الدولي، وصبغ الحركة الاستقلالية الشيشانية بصبغة إرهابية – سلفية جهادية، ما سهّل نزع الغطاء والشرعية عنها، ومكّن الكرملين من “تسوية الحساب” مع غروزني.
على أية حال، ثمة عوامل أخرى تدعم المالكي، وتجعله في وضع أفضل من حليفه الدمشقي ... فالمجتمع الدولي بمجمله، يصطف خلف بغداد وإن بتفاوت وأحياناً بشروط، ولكلٍ مصالحه التي لا تخفى على أحد، ولا يجد داعمو داعش في المنطقة العربية والإقليم سنداً لهم، أو مبرراً قوياً يدعم حججهم ... أما في سوريا، فتبدو الصورة معكوسة تماماً، إذ باستثناء إيران وروسيا، فإن من يدعمون النظام لا قيمة لهم ولا وزن على الساحة الدولية ... ولذلك تبدو حظوظ النظام العراقي أعلى بكثير من حظوظ النظام السوري في الانتصار على الزحف الداعشي، إن هو أجاد إدارة الصراع، ونزل عن قمة الشجرة، وطلّق بالثلاث حالة “العناد” و”ركوب الرأس” التي ميزت أداءه، وإن هو جنح لخيارات التصالح والوحدة الوطنية وإشراك الجميع وقبول المظلمات وحل المشكلات بالحوار السياسي والتخلي عن نهم “السلطة” وهيمنة “المذهب” والشغف بـ “الغنيمة”.