لم يهدأ العراق منذ أن احتل، كان يكفي أن يختفي صدام حسين من المشهد، ويوقع قرار إعدامه وينفذ بتاريخ 30/12/2006 لتبدأ عملية الديمقراطية المزعومة أميركياً، لكن العراق لم يتطور وغرق في الدم.
يعود العراق اليوم للجاذبية الإعلامية، وقد قوضت تحالفات السياسيين على واقع الفقر والقلق والفوضى وادخال البلد في عباءة الصفوية الجاقارية الشيعية. خسر العراق لكي يستقر ويخرج من استبداد البعث ونظام صدام حسين، لكنه وقع بما هو أفجع وأكثر بؤساً، فانتهى إلى دولة مقطعة السيادة وتصنع قراراتها خارج عاصمتها، وليصنف بأنه دولة فاشلة.
المقاومة العراقية الناهضة اليوم للسلطة المركزية في بغداد، مختلفة عن تلك التي انتصرت في العام 2003 بدعم غربي أميركي، آنذاك كان الانتصار للتاريخ البعيد والمظلومية الشيعية مغلفة بتواطئ المرجعية الشيعية الفقهية ممثلة بالشيخ السيستاني الذي أفتى بعدم الجهاد ضد الاميركان بحجة أن الإمام غائب ولا وجوب لإعلان الجهاد، فكان أن سُلم العراق بدم بارد للغرب.
فتوى السيستاني لها أصلها في التاريخ إذ يذكر ابن الطقطقي في تاريخه أنه « لما فتح السلطان هولاكو بغداد في سنة ست وخمسين وستمئة أمر أن يستفتى العلماء أيهما أفضل: السلطان الكافر العادل أم السلطان المسلم الجائر؟ فلما وقفوا على الفُتيا أحجموا عن الجواب، وكان رضيُّ الدين علي بن طاووس حاضراً هذا المجلس.. فلما رأى إحجامهم تناول الفُتيا ووضع خطهُ فيها بتفضيل العادل الكافر على المسلم الجائر، فوضع الناس خطوطهم بعده» (الآداب السلطانية، لابن الطقطقي/2).
عام 2003 سقط العراق فانفتحت شهوة إيران عليه، وثأرت من زمن صدام، وراحت تبحث عن كل امكنته لتدمرها، وتطارد انفاسه وقبعاته، ولو شاءت لجمعت بقايا الرصاص الفارغ من بنادقه، وهي اليوم الطرف المفاوض دولياً بشأن استقرار العراق، وبين عام الاحتلال والراهن الذي يجري اليوم عقد من الزمان، كان كافيا لاستنهاض روح الثورة وروح الكراهية للطائفية، فغياب العدل عند حكومات الطوائف أوجد نفساً متمرداً كان بمثابة الجمر الذي يثوي تحته الرماد، وكان لهذه المقاومة رمزيتها التاريخية القريبة والمتمثل بالشهيد صدام حسين.
كان يكفي أن صدام ظل عرضة لتوقعه بالعودة، حتى بعد أن مات، ويكفيه أنه عند البعض ما زال حياً، يمر بهم ويسأل ويطمئن عنهم، هكذا احبوا صدام، ببطشه وجبروته وعدله وانسانيته وتهوره، لكنهم لم يحبوا المالكي ولا علاوي ولا الجعفري ولا المطلق أو الهاشمي كما احبوه؛ لأنهم أتوا بزمن المقاولات الاحتلالية وزمن الديمقراطية والفوضى الخلاقة.
نعم تستهلم قوى الثورة العراقية اليوم ديمومتها من رمزيتها التي ما زالت تعيش معها، ممثلة بشخصية صدام حسين، فهو يصحبها بخيالها وهو يهدد أمريكا، ومعه وهو يرفض عرض الشيخ زايد رحمه الله له بأن يترك العراق ويحل ضيفا عليه، ومعه وهو يُخيف كل الجبناء حتى في لحظة الإعدام، ويكفيه أنه قتل بشجاعة المقتول.
روي لي القاضي الأول في محاكمة صدام حسين الدكتور رزكار محمد أمين، انه انسحب من المحاكمة لأنه شعر بأن أبسط الحقوق الانسانية لصدام حسين لم تمنح له، وأنه كقاضٍ تعرض للضغوط، فاختار ان يحفظ شرفه وضميره، كانوا كما يقول «لا يريدون صدام أن يتكلم وأن يدافع عن نفسه، ولو شاءوا لحاكموه بدون أن يراه احد».
إذن والحالة هذه سيبقى صدام ذا رمزية في الشهادة والموقف، سيظل وجهاً غائباً للعروبة لكنه حاضر في ضمير الشعراء، والأدباء ممن أحبوه أو بطش بهم، لكنه حجز مقعده في الوجدان العربي، أما الذين جاءوا بعده على اكتاف الاحتلال فسيتبؤون المقاعد الأولى في النسيان.
فكم من شاعر سيمجد المالكي او السيستاني او الجعفري أو الجلبي، وكم من رواية ستحفل بهم، وكم من لوحة تشكيلية ستوثق الدمار؟ لكن، كم من فنان جاء من العراق بزمن صدام؟ وكم من شاعر واستاذ جامعي وصل الأردن ودرس وعلمّ في جامعاته؟ لكن في زمن ما بعد الاحتلال كثر المهربون وقطاع الطرق والانتحاريون وتجار السلاح ممن وصولوا إلينا وأزعجونا. مع وصول من هم محترمون أيضا ولا ذنب لهم بما حصل لبلدهم إلا لأنه عراق صدام والسنة والتاريخ والحضارة.