بالأمس، عصفت الأزمة السورية بـ «تنسيقية أحزاب المعارضة» في الأردن، غرّد الإسلاميون خارج سرب شركائهم من قوميين ويساريين، وتحول «التنسيق» إلى تباعد فقطيعة، وزاد الطين بلة، امتداد هذا الخلاف إلى موضوعات وساحات أخرى، من بينها ثورة يونيو وسقوط حكم الإخوان، وصعود ظاهرة السيسي في مصر.
اليوم، تكاد الأزمة العراقية أن تعصف بما تبقى من تلك «التنسيقية»، لاسيما بعد تفاقم الخلاف في أوساطها، حول مجريات الوضع في غرب وشمال العراق، وما إذا كنّا بصدد «ثورة / انتفاضة» جماهيرية بقيادة البعث والجيش العراقيين (السابقين) والنقشبندية بزعامة عزة إبراهيم الدوري، أم أننا أمام «إرهاب» أعمى، فجرته وتقوده، دولة العراق والشام الإسلامية بزعامة أبو بكر البغدادي.
واللافت في الأزمة الراهنة التي تعصف بالمعارضة، أنها تكاد تتركز بين «البعثين»، العربي الاشتراكي والتقدمي ... الأول، يعيش حال نشوة احتفالية، ويهلل للنصر الآتي، والثاني، يرى مؤامرة صهيو– أمريكية، أرادت أن تعصف بكل من العراق وسوريا، عنوانها «الإرهاب، أما داعموها من وراء ستار وأمامه، فهم أطراف خليجية و»عثمانية» وإمبريالية وصهيونية.
بعثيون في سوريا، يقاتلون «داعش» ويرون فيها رأس جسر لمعسكر بأكمله، وانسجاماً مع هذا الموقف، رأينا النظام والإعلام في سوريا، يصطف إلى جانب المالكي ويتبنى رواية حكومته بالكامل حول ما جرى ويجري، وتبنت الفروع العربية للحزب الموقف ذاته من دون تحفظ، كما جرت العادة.
أما في العراق، فإنك لن تجد أبداً في أوساط بعثييه من يتحدث بهذه اللغة، فالميل غالباً لتقزيم دور «داعش» وإنكاره أو التقليل من شأنه، والتركيز باستمرار على أن ما يجري هو ثورة وانتفاضة، وأنه بمثابة «عودة الوعي» للعراقيين، بقيادة حزب البعث وبقايا المؤسسة العسكرية المنحلة، وحلفاء جدد من مكونات عشائرية وصوفية ... جرائم «داعش» وفظائعها، لا تكاد تذكر في هذا الخطاب.
لكن المفارقة، أن ثمة ما قد يشي بملامح اصطفاف جديد، بين الإخوان المسلمين هذه المرة وبعض البعثيين والقوميين المحسوبين على «المدرسة العراقية» ... الإخوان، وذراعهم السياسية ووسائل إعلامهم، لا يأتون أبداً على ذكر «داعش»، من يقرأ تصريحاتهم ويتتبع صحفهم و وسائل إعلامهم، لن يعرف أبداً أن هناك كياناً جهادياً اسمه داعش، ولن يسمع بما يجري اقترافه من جرائم ومذابح، قالت الأمم المتحدة أنها ترقى إلى مستوى جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.
ما يجري في العراق، وفق منظور الخطاب الإسلامي، هو انتفاضة وثورة، يقوم بها أهل السنة المظلومين، ضد حكومة مذهبية ورئيس وزراء قمعي مدعوم من إيران ... وهي لهذا استحقت الدعم والمناصرة والتأييد ... وربما يؤسس هذا التلاقي في المواقف بين بعض البعثيين والإسلاميين، إلى نشوء ائتلافات و»تنسيقيات» جديدة على الساحة الحزبية.
ما يجري من حراك سياسي واصطفافات، يبدو أمراً مفهوماً ومنطقياً ... لكننا نتساءل عن قدرة بعض أحزابنا على إنكار بعض الحقائق والتنكر لها ... فأنت من حقك أن تدعم «انتفاضة المحافظات السنية»، وأن تكيل للمالكي ما تشاء من اتهامات، ولكن هل يمنعك ذلك من رؤية «خطر التطرف والإرهاب» الذي يقلق العالم بأسره، ولا يحرك فيك ساكناً؟ ... في المقابل، أنت بمقدورك أن تصطف خلف المالكي، وأن تتنكر لمطالب أهل المحافظات المتمردة، لكنك لن تستطيع معاندة العالم، والتنكر لحقيقة السياسات المذهبية والإجراءات التمييزية التي مارستها الحكومة ضد مكون رئيس، تعرض للتهميش والإقصاء، بشهادة أقرب حلفاء النظام العراقي وأصدقهم له.
ما يجري من انقسامات سياسية وحزبية حول الأزمة العراقية، هو الامتداد الطبيعي للانقسامات التي دارت حول الأزمة السورية، وهو النتيجة المنطقية لسياسة إغماض الأعين عن الحقائق، والنظر بعين واحدة لما يحيط بنا من أزمات، ومن موقع انحيازات حزبية وإيديولوجية ضيقة للغاية.
والأهم من ذلك كله، أن انقسامات الأحزاب وتوحدها، تدور في الغالب الأعم، حول قضايا خارجية، تظل على أهميتها، «خارجية» ... الأمر الذي لا يعني بحال أن أحزابنا متفقة في مواقفها حول عناوين السياسة والأجندة الداخليتين، بل يعني من أسف، أن كثرة من أحزابنا، ما زالت أبعد من أن تبلور أجندة للعمل والنضال الوطنيين، مسكونة بهاجس القضايا والصراعات من حولنا، وهذا أمر لطالما بنت عليه القوى المناهضة للأحزاب السياسية مطالعاتها، عن افتقار الأحزاب لأجندات وطنية (بمعنى محلية) وارتباطها بأجندات خارجية، فهل تتنبه الأحزاب لهذه المسألة؟ ... وهل من الممكن أن تواصل تنسيقها و»تنسيقيتها» بصرف النظر عن مدى الخلاف والاتفاق حول قضية ستظل خارجية، مهما اقتربنا منها؟