كلما قرأت خبرًا في الصحف، أو سمعت مثله في مجلس أو منتدى، عن الخلافات داخل جماعة الإخوان المسلمين، والانقسامات التي ينكرها البعض في صفها، ويعترف بها البعض في الجلسات الخاصة وينكرها بالعلن، ويصمت البعض الآخر عنها فلا يؤكدها ولا ينفيها، تاركًا للناس تعداد أسباب هذه الانقسامات ليقول بعضهم: إن الإخوان منقسمون على ترتيب الأولويات. فإذا صح ذلك فإنه يمثل كارثة، لأنه يعني ان هناك انقسامًا عند أبناء الجماعة في وحدة التصوّر، ومن ثم في وحدة الهدف.
وهناك من يقول: إن الإخوان منقسمون على أساس مناطقي، وهذه الأخرى خطيرة، لأنها تعني ان رابطة الأخوة والعقيدة لا تتقدم على ما سواها من الروابط، ومن ثم فلا فرق في التربية عند الإخوان عن غيرهم من شرائح المجتمع، وهذه ثانية تؤكد ابتعاد أبناء الجماعة عن تعاليم مرشدها الأول.
وهناك فريق ثالث يقول: إن سبب الخلاف هو على المكاسب والمغانم، وانه بسبب عدم رغبة فريق بوصول فريق آخر إلى قبة البرلمان.. مثلاً يتبنى هذا الفريق قرار مقاطعة الجماعة للانتخابات وهذه أيضًا خطرة. وهي مصيبة، لأنها تعني فقدان صفة التجرّد التي يجب ان يتصف بها الداعية. وهي أيضًا خلل في معنى الإيثار ومفهوم الأخوة..
وهناك فريق رابع يقول: إن غياب الشفافية من جهة، وسيطرة الشللية التي أدت إلى بروز تنظيمات موازية داخل الجماعة من جهة أخرى، سبب من أسباب الخلافات التي لم يعد إنكار وجودها يجدي.
كل هذه أسباب يتداولها المراقبون والمحللون للخلافات داخل جماعة الإخوان المسلمين، وهي أسباب تؤشر بدورها على خلل آخر في التربية، خاصة في مجال التجرّد وإنكار الذات. بالرغم من النفي المتكرر من مصادر الجماعة لوجود خلافات في صفوفها.. وهذه المصادر تتجاهل أخبار المحاكمات وقرارات الفصل والتجميد وتسريب محاضر الاجتماعات، وخروج المبادرات من عباءات الجماعة وبالرغم من إرادتها، وعقد مؤتمرات الإصلاح، وتشكيل لجان المصالحة وغير ذلك. مما لم تألفه الجماعة، ويألفه الناس عنها في سابق عهدها، الذي أتذكره كلما قرأت خبرًا أو سمعته عن ما يجري داخل الجماعة. ذلك أنني نشأت في منزل كان يعجّ برموز وقيادات الحركة الإسلامية، خاصة في فصل الصيف، حيث كانت رموز الحركة من الأردنيين وغير الأردنيين يتوافدون إلى الأردن، فتمتلئ بهم قاعات جريدة «اللواء» أو صالونات المنزل، ومما رسخ في الذاكرة عن تلك الأيام، ذلك التواضع الشديد الذي كان يتصف به أبناء الجماعة، وفي الطليعة منهم رموزها وأصحاب السبق منهم، وهو تواضع كان يصل إلى حد نكران الذات، يجسد أروع تجسيد خُلق الإيثار، ويترجم حبًا يغمرون به بعضهم بعضًا، ويقدم بسببه كل منهم الآخر على نفسه احترامًا وتوقيرًا كان يصل حد تقبيل يد الأكبر سنًا، أو صاحب السبق منهم ولم تكن كلمات الاتهام، أو التشهير، أو التخوين تعرف طريقها إلى ألسنتهم. فما الذي حدث حتى صار الخلاف بين أبناء الجماعة على رؤوس الأشهاد، وصار تبادل الاتهام على صفحات الصحف، ومحل أحاديث الناس؟ سؤال تحمل الإجابة عليه الكثير من التحديات.. أولها: ضرورة التجرّد ونكران الذات لتأتي الإجابة شافية وافية بعيدة عن الهوى، الذي يعمّق الخلاف الذي لا يجوز الاستمرار في نكران وجوده؛ فالاعتراف بالمرض أول خطوات علاجه.
ولأن الشيء بالشيء يذكر، فإن مما يذكرني به استرجاعي لصورة الجماعة أيام زمان، حوار دار بيني وبين الأستاذ صلاح شادي رحمه الله، عندما كان نائبًا للمرشد العام، سألته أثناء زيارته لي في الأردن: ما الفرق في عمل الدعوة بين أيام زمان والآن؟ فقال رحمة الله عليه، عبارة موجزة لكنها تحمل الكثير من المعاني والدلالات فقد قال لي: «لقد كنا نحمل الدعوة إلى الناس.. اما الآن فقد صارت الدعوة تحملنا إلى الناس» وهذه العبارة تعني انقلابًا في المفاهيم، ترتب عليه انقلابٌ في الأولويات، تلاه انقلابٌ في السلوك. ذلك ان حمل الدعوة للناس كان يعني التضحية بالوقت، والمال، والراحة، وكان يعني ابتلاء السجن، وربما النفي والإعدام، وهذا كله يحتاج إلى تجرّد وإخلاص، وإنكار للذات، وهو امتحان وبلاء قد يصمد أمامه كثيرون، أما عندما تصير الدعوة مطية يركبها البعض ليصبح نائبًا، أو وزيرًا، أو ذا جاه ومال، فإن هذا يعني فتحًا لأبواب الجشع والطمع الذي صرنا نسمع معه عن مال سياسي ينفق أيام انتخابات هيئات الجماعات وهو يعني أيضًا فتح أبواب الصراع والخلاف الذي يفتحه ابتلاء النعمة، الذي لا يصمد أمامه كثيرون. فالدنيا غرورة، ولمغرياتها مبررات كثيرة قد تصل أحيانًا حدَّ لَوْي عنق النصوص. فما بالك بتبادل الاتهامات والانقسامات؟.
«كنا نحمل الدعوة إلى الناس فصارت الدعوة تحملنا إلى الناس»: خلاصة ما وصل إليه رجل رافق الجماعة منذ بواكيرها الأولى، ودفع في سبيلها الكثير، واقله انه قضى زهرة سنوات عمره في غياهب السجون، فهل نعي الدرس، ونعود إلى سيرة الدعاة الأوائل تجردًا ونكرانًا للذات، ومحبة تفيض على الجميع، فتكون الحركة الإسلامية عنصر استقرار للمجتمع، لا عنصر توتر، وتتعامل مع الناس بحسن الظن لا بلغة الاتهام، التي أصابت قامات عالية كان لها شرف السبق في خدمة الدعوة؟.