لا شيء يؤكد أن اختفاء المستوطنين الثلاثة هو عملية اختطاف سياسي، ولا دليل يؤكد أن الحادثة تمت بقرار من أية جهة فلسطينية، ولا طرف أعلن المسؤولية عنها وأعلن مطالبه، ومع ذلك ومن باب الجدل فان:
1- حكومة دولة الاحتلال هي من استدعى الاختطاف ومهد له كل المبررات:
تنصلت بدون سبب مقنع من اتفاقها مع السلطة الوطنية وأوقفت إطلاق الدفعة الرابعة من أسرى ما قبل أوسلو. جاء ذلك في سياق نسفها للمفاوضات وإفشالها للمسعى الأميركي بتشبثها بشروط تعلم يقينا استحالة قبولها.
قدمت للكنيست مشروع قانون يمنع العفو عن الأسرى وإطلاقهم بالذات في عمليات تبادل أو اتفاقات سياسية.
تمادت حتى الفجور في استعمال قانون جاهلي من مخلفات الاستعمار البريطاني يتيح لها اعتقال من تريد ممن هم تحت الاحتلال بدون تهمة محددة، وبدون محاكمة، ويتيح لها تجديد اعتقاله مرة تلو الأُخرى لسنوات.
تجاهلت كل إضرابات الأسرى الإداريين لوقف العمل بهذا القانون. وبدلا من التجاوب مع المطالب الإنسانية المحقة للإضراب الأخير عن الطعام المستمر منذ 59 يوماً تقدمت بمشروع قانون يجيز تغذية المضربين بالقوة.
بعد كل ذلك، هل تركت حكومة دولة الاحتلال باباً مفتوحاً لأن يرى اي أسير شمس الحرية غير باب الاختطاف؟
أليس وعي الناس بهذه الحقيقة هو ما يفسر لماذا كان ترحيب كل مواطن عادي سألته اي محطة فضائية عن رأيه بعملية الاختطاف، وما يفسر أيضاً حالة التماسك والصمود التي تسود عموم المجتمع الفلسطيني.
2 - لا سند قانونياً ولا دولياً ولا أخلاقيا يعطي إسرائيل الحق باعتقال مواطني أراضي السلطة الوطنية، لا إدارياً بدون تهمة ومحاكمة ولا قضائياً بأحكام.
اتفاقات أوسلو أنهت هذا الحق، إن كان أصلا موجوداً، فقد أعطت الولاية الإدارية والأمنية للسلطة الوطنية على المناطق ألف وباء من أراضي الضفة الغربية. والانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة أنهى كل علاقة قانونية مع القطاع.
ومع ذلك تعطي دولة الاحتلال لنفسها، بمنطق القوة، حق الاختطاف والمداهمة والاعتقال والمحاكمة في كل الأراضي الفلسطينية، لا فرق بين غزة والضفة وبين أراضي ألف وباء أو جيم.
ألا يؤكد ذلك مجدداً أن الاحتلال ما زال قائماً بالواقع، وأن الحق بالمقاومة بكافة أشكالها ما زال مكفولا كما تشرّعه القوانين والأعراف الدولية.
3- جعلت دولة الاحتلال من قضية الاختفاء/ الاختطاف مسرحية رديئة، بدت فيها أنها معنية بالبحث عن دور بطولة والبحث عن إنجاز أكثر مما هي معنية بالبحث عن المخطوفين.
بالغت كثيراً في استعراض قوتها، استدعت الاحتياط وعقدت اجتماعات يومية لأجهزتها الأمنية بالذات، أطلقت تهديداتها بكل اتجاه، وباشرت تنفيذها بكافة الأشكال التي أصبحت معروفة ومعاشة. بعض تهديداتها وصل موقع الرئاسة وبعضها لوح جدياً بالترحيل والإبعاد.
أما في خلفية المشهد فتكمن الأهداف الحقيقية للحملة المسعورة التي تقوم بها دولة الاحتلال وأجهزتها: منها أهداف داخلية تتعلق بتسكين التناقضات التي تعصف بمجتمعها ومكوناته السياسية، ومنها أهداف خارجية تتعلق أساسا باستعادة بعض التعاطف الدولي وبوقف العزلة التي تتقدم نحوها بثبات.
لكن هدفها الأساسي يبقى تصعيد حربها على المصالحة الفلسطينية، وتسويق ادعائها انها جاءت الى حكومة الوفاق بتنظيم "ارهابي" وان هذا ما يمنع استئناف المفاوضات ويوقف مسيرة السلام.
صحيح انها تقوم بذلك من باب الحرب المفتوحة على "حماس"، الا أن نارها تطال كل فلسطيني وكل قوة سياسية اخرى.
4- الأخطر، ان هذه المسرحية التي تمثلها حكومة دولة الاحتلال قد تكون مقدمة وتمهيدا لإجراءات أسوأ بكثير مما سبق :
مثل إضعاف السلطة الوطنية الفلسطينية وإضعاف شرعيتها بسحب صلاحيات استمدتها من اتفاقات أوسلو( منع إجراء انتخابات بالقدس أساسا وفي مناطق أخرى، تفعيل الحواجز بين المدن والتضيـيق على حرية الحركة بين المناطق والمدن وبين أراضي السلطة والخارج، وقف التصاريح والتسهيلات ...) .
ومثل الخنق المالي وأوله حجز مستحقات السلطة التي تحصّلها دولة الاحتلال.
ومثل ضم بعض أراضي الضفة بالأمر الواقع، بالذات التي تقوم عليها الكتل الاستيطانية الكبيرة.
ومثل القيام من جانب واحد بضم مناطق والانسحاب من أُخرى، على أساس خرائط ترسمها حسب طموحاتها وحاجاتها التوسعية الاستيطانية، لتترك الضفة الغربية جزرا وكانتونات مقطعة الأوصال وصعبة التواصل لا تمتلك الحد الأدنى من مقومات الدولة.
القضية أكبر بكثير من حادثة اختفاء او اختطاف ثلاثة مستوطنين، انها معركة واسعة ترى دولة الاحتلال ان ظرفها الدولي والإقليمي مناسب وان مبررها متوفر ولم يعد ممكناً تأجيلها.
هدف المعركة الأساسي التخلص وبلا رجعة من التزام حل الدولتين اولا، ثم منع قيام دولة فلسطينية ذات سيادة.
فهل يقود هذا الى القناعة بأنه لم يعد ممكناً تأجيل إعادة ترتيب البيت الفلسطيني ورسم استراتيجية مجابهة جديدة يقرها الجميع وتضم الجميع.
هل يقود ذلك الى موقف راسخ يرفض الانجرار الى المشاحنة والتراشق بأي شكل ولأي سبب، ومهما كانت درجة الاستفزاز؟ وعلى أساس التمسك بهدف إنهاء الانقسام ومواصلة مسيرته .
ألا يجب أن يقود ذلك إلى حسم أمر التقدم إلى عضوية المنظمات الدولية، وبالذات الى محكمة الجنايات الدولية التي يبدو الإسراع بالانضمام إليها في غاية الضرورة والإلحاح.