أخر الأخبار
الكرامة - ست ساعات
الكرامة - ست ساعات
يتعرض تاريخُ كل المجتمعات لمنعطفاتٍ زمنيةٍ هامّة، تتغيرُ فيها مجرياتُ الأحداثِ اما للأحسن أو للأسوأ، ولكن لا تستمرُ على نفسِ الوتيرة التي كانت عليها قبل ذلك المنعطف الخطير، لذا سُميت منعطفاتٌ في مسيرةِ الحياة، تماماً كما هي منعطفاتُ المسيرِعلى الطريق، اذ لابد عندها من تغييرِ الاتجاه يمنةً أو يُسرةً، ولكن بفارق ان للطريق اشاراتٌ تحذيريةٌ تُنبه السائقَ لاتجاهاتها قبل الوصول اليها، أما في منعطف معركة الكرامة الخالدة، فلم تكن الست ساعات التي قبلها – منطقياً- بالوقت الكافي للتجهيز لتلك الهجمة الخاطفة، ولكنها كانت حقيقةً واقعية ً لصد تلك الهجمة الغادرة التي أبدعت القوات الاردنية الباسلة - الجيش العربي في صدها خلال ستة عشر ساعة فقط من القتال الشرس، وحالت بين قوات الاحتلال وبين تحقيق أهدافها باحتلال ثلاث مدن رئيسية من أرض الوطن الغالي هي: عمان العاصمة والسلط الأبية والكرك التاريخ، لقد شكّلت منعطفاً هاماً، أرخت بعده جدائلُها ثلاثُ مدنٍ غاليات في أحضان الوطن والمجد، بعد أن كانت مستهدفةً كموطئ قدم للاحتلال الصهيوني الغادر في أردننا - العصيّ على انوفهم.
لن اتحدث عن مجريات معركةٍ شَهد القاصي والداني لبسالةِ جيشنا العربي فيها، فقد جرت حادثات الفشل والقهر في غرف الساسة والجنرالات الصهيونية بعدها جري النعي في دار عرسِ، وهذا يكفي، لكن ما يهمني هو الجاهزية العالية خلال الساعات الست التي سبقتها، والصمود الصلب لستة عشر ساعة من القتال البطولي، وبمجموع 22 ساعة فقط، اي في أقل من نهار وليله، كانت هي الرهان الفائز في تجاوز ذلك المنعطف الخطير، الجاهزية التي تعني عملٌ شاقٌ من التحضير والتجهيز للنفوس والعدة والعتاد، ولسنوات طوال، قد تُطلب في ساعة جدٍ لا هزل فيها، فما لا يحدث في سنين طويلة قد يحدث في دقيقة، وهي تعني أن القلب الذي يحمله الجندي والضابط الاردني ليس ككل القلوب، بل هو قلبٌ متيقظٌ حذرٌ مرابط ٌعلى الثغور حتى وهو في اجازته بين اهله، قلبُه مستعدٌ لتلقي نداء الوطن في أي لحظة وبلا تردد عندما يناديه، وفي أصعب ظروف البرد والعوز والقلة، فتجتمع – في ست ساعات فقط- القوات الاردنية الباسلة في دفاع مستميت غير مستكن، على جبهة طويلة تمتد 100 كيلومتراً، من أقصى شمال الاردن الى جنوب البحر الميت، فجر يوم الخميس الساعة الخامسة والنصف لرد ذلك الهجوم الغاشم الكثيف، وتقدّم دماء 86 شهيدا لقاء كرامةِ وطنٍ يرخص لأجله كل غالي ونفيس. فما الدرس الذي يجب ان نتذكره كلما هبّت رياح الكرامة الزكية على النفوس المتعبة حالياً؟
مقصدُ القول؛ الكرامة هي درسُ الجاهزية الاول بامتياز وفي كل شيء، جاهزية متأهبة ليوم كريهةٍ وقتال، جاهزيةُ النفوس والمعدات والاسلحة، جاهزيةُ المعتقد والمقصد، جاهزيةُ الوجه واليد واللسان، جاهزيةُ الامانة والعمل الجاد، فلا يعلم أحدٌ متى تكون ظروف الحياة ضده، وعندما تكون كذلك فهي لن تستشيره، فلا مشورةَ بالطعونات ان وقعت سهامها في مقاتل دامية، ولا يرفعها الا الدعاء ثم الاعداد الجيد. فهل نحن جاهزون لمنخفض جوي عميق مثلاً؟ او لكارثة صحية طامة كالتي مرّت؟ أو لمجاعةٍ متوقعةٍ جراء حرب هنا او هناك أثّرت على الاقتصاد عالميا؟
خلاصةُ الحديث؛ في الكرامة كما أراها تذكيرٌ بالعودة للمربع الثاني - مربع التخطيط للمستقبل - في مربع الاوليات لستيفن كوفي، والبعد كل البعد عن المربع الاول – مربع حل الازمات والفزعات، وباقي مربعات الضياع والخداع، هي تذكيرٌ للعمل الحقيقي في كل مجال تنموي على انه (مهمٌ وغيرُ عاجل) وليس (مهماً وعاجلاً)، الذي يتطلب التخطيط الجيد يليه التنفيذ الحسن، والعمل الجاد في وقت الراحة والسلم ليوم الحرب والحاجة، فكما قيل: قطرة عرق في التدريب في الميدان وقت السلم تحفظ هدر قطرة دمٍ وقنطار كرامةٍ في وقت الحرب والحاجة، رحم الله شهداء الكرامة والوطن.