يتقاطر “أصدقاء سوريا” صوب بغداد... هذه المرة بـ “قبعة جديدة” ومهمة مختلفة ... هنا يأتون بصفتهم الجديدة “أصدقاء العراق”، يغادر كيري مطار بغداد، فيصل وليام هيغ، وأحسب أن بقية الرهط في طريقها إلى العاصمة العراقية، هكذا تجري الأمور عادة، الممثل الأصيل يصعد المسرح، ثم يأتي دور “الدوبليرات” تباعاً.
هم أنفسهم، يناصبون النظام في دمشق أشد العداء، يسلِّحون المعارضة ويدربونها ويموِّلونها، وقد أحالوا مجلس الأمن ومختلف المنتظمات الدولية كمنصة للانقضاض على “الديكتاتور الذي يقتل شعبه” ... أما هنا، في العراق، فالصورة تبدو مختلفة تماماً، هم هنا لتدعيم النظام وتسريع تشكيل الحكومة ومساعدة الجيش ومحاربة الإرهاب ... حتى أنهم قد يتورطون في “حرب جوية” للقضاء على داعش.
مع أن الحكومة التي يدعمونها ورئيس الوزراء الذي يلتقونه، هو أحد أقرب حلفاء النظام في دمشق ... والمفارقة أن كلا النظامين، المالكي والأسد، يندرجان في المحور ذاته، ويعتمدان على ذات الشبكة من القوى الحليفة والشقيقة والصديقة التي تقاتل بضراوة إلى جانبهما: حزب الله، أبو الفضل العباس، عصائب أهل الحق وبقية السلالة، ومن خلفهم جميعاً، تبدو طهران، وبدرجة أبعد موسكو، في خلفية المشهد: صديقاً صدوقاً وجداراً استنادياً صلباً.
كيف يجيز هؤلاء لأنفسهم كل هذا التقلب في المواقف والمواقع والتحالفات ... كيف يتحالفون مع المالكي ومن هم وراءه، ويقاتلون الأسد ومن هم وراءه، مع أن “من وراء” النظامين هي الحكومات والقوى والأطراف ذاتها ... كيف تستفزهم داعش في العراق، فيحشدون الطائرات من غير طيّار وحاملات الطائرات ويرسلون الخبراء والمستشارين، فيما سبق لهذه الأسلحة والقطاعات وربما المستشارين أنفسهم، أن كانوا على أهبة الاستعداد لضرب النظام في سوريا، لولا اضطراره للتخلي عن سلاحه الكيماوي قبل عام.
كيف لـ “داعش” في العراق أن تكون خطراً على الأمن والمصالح الغربية، وأن يجرى التعامل معها في سوريا، بكل هذا البرود، إن لم نقل بتواطؤ وغض نظر عن المساعدات والتسهيلات التي تحصل عليها، من حلفاء واشنطن العرب والإقليميين؟ ... كيف لكل هذه المفارقات و”الحماقات” أن تقترف في الوقت ذاته، وفي الجغرافيا ذاتها تقريباً؟
الحقيقة أن ليس كل ما يصدر عن بعض عواصم الغرب، أمراً مدروساً ويعبر عن عميق المصالح والاستراتيجيات، كما اعتدنا أن نعتقد ونصدق ... نحن نشهد أبشع عمليات التخبط والارتباط، التي تخجل دول فاشلة من اقترافها ... انظروا ما الذي فعله رئيس الدولة الأعظم: قبل أقل من أسبوع واحد فقط، “نعى” المعارضة المعتدلة” وقال إن الرهان عليها لتغيير نظام الأسد أو إحداث الانقلاب في مجرى الأحداث وتوازنات القوى، هو ضرب من “الفانتازيا”... لم يكد حبر تصريحاته أن يجف، حتى تقدم بطلب إلى الكونغرس لرصد نصف مليار دولار لدعم المعارضة المعتدلة .... أية سياسة هذه، أي تخبط وارتباك هذا، أين هي هيبة الدولة الأعظم، التي تتوافر على أوسع شبكة من مراكز البحث والتخطيط والتفكير الاستراتيجي في العالم؟
يقول مسؤولون أمريكيون في معرض تبريرهم لإصرار الإدارة على تنحية الأسد وإسقاطه، بخلاف الحال في العراق مع المالكي، أن الأسد بات “مغناطيساً” عملاقاً يجذب الجهاديين، ولهذا وجب تنحيته إن أردنا لسوريا أن تعرف الاستقرار ... هل الصورة في بغداد مختلفة عن دمشق؟ ... ماذا عن “جاذبية” المالكي للإرهاب والإرهابيين، أليست أكثر بأضعاف مما هي عليه لدى الأسد ونظامه؟
يقولون إن المالكي جاء عن طريق صناديق الاقتراع، فيما الأسد ورث الحكم عن أبيه، الذي جاء إليه على ظهر دبابة، وهذا صحيح من حيث الشكل والتوصيف، وإن بتحفظ يسترجع “ظهور الدبابات الأمريكية في 2003”، ولأنه كذلك، فلماذا تدعم عواصم الديمقراطية الغربية، محاولات البعض في بغداد الانقضاض على نتائج الصناديق، وضرب العملية الديمقراطية، وقطع الطريق على المالكي الذي حصد شخصياً من الأصوات، أضعاف ما حصل عليه أقوى منافسوه، وتقدمت قائمته على القوائم الفائزة بأرقام فلكية ... هل يمكن استخدام الانتخابات ذريعة لتفسير التمايز في مواقف المزدوجة حيال كل من الأسد والمالكي، وتعطيلها تماماً عندما يتعلق الأمر بصفقات وتسويات تريد واشنطن إجراءها مع “المحور السنيّ” العربي، الذي يحمل اسماً حركياً هو “محور الاعتدال”، على حساب المالكي ونتائج الانتخابات.
لا أخلاق في السياسة ولا مبادئ ... هناك فقط مصالح وحسابات مالية ومصرفية وتجارية ونفطية، كفيلة بجعل “فقهاء الظلام” قادة اعتدال، وأصدقاء المالكي أعداء الأسد، كفيلة بجعل سادة النظام العالمي الجديد، يقولون شيئاً اليوم ونقيضه غداً، ينهون عن فعل ويأتون بمثله ... ويزيد الطين بلّة، أن أغلب هؤلاء لا يتوقفون عن “الثرثرة” عن “القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة”، فأي زيف هذا؟