لم يتعلم مسيحيو لبنان شيئاً من تجربة أكراد العراق، والأرجح أن الوقت المتاح للتعلم قد نفذ أو هو في طريقه للنفاذ، لتكون النتيجة، تراجع “الصوت المسيحي” في مطبخ صنع القرار اللبناني، مقابل تحول “الصوت الكردي” إلى بيضة قبان السياسة وصنع القرار في العراق.
لست أقترح على مسيحيي لبنان انتهاج خط “انفصالي” كذاك الذي انتهجه أكراد العراق لسنوات وعقود، فثمة فوارق لا تخطئها العين في التجربتين والسياقين والقضيتين، لكنني أجد صعوبة في فهم ديمومة حالة الانقسام والتشظي التي يعيشها المجتمع اللبناني المسيحي، وفشل قواه الفاعلة، من دينية وزمانية ومدنية، في الاتفاق على “تعريف” مصالح المسيحيين وبناء التوافقات حول سبل الحفاظ عليها وتعظيمها، فكانت النتيجة، تآكل دور المسيحيين، وتحول أقطابهم إلى “أجرام” تدور في الفلكين السنّي والشيعي.
من موقعه على رأس التيار المسيحي الأكثري، يحاول الجنرال ميشيل عون، وضع أصبعه على الجرح المسيحي ... عرض انتخاب رئيس الجمهورية مباشرة من الشعب، على دورتين، الأولى “تمهيدية/ برايمريز” يختار بنتيجتها المسيحيون أعلى فائزين، لتليها انتخابات عامة، يشارك فيها اللبنانيون كافة ... وبالتزامن مع هذا الاقتراح ارتأى الرجل القادم من خارج رحم الإقطاع السياسي اللبناني، اعتماد “القانون الأرثوذكسي” والذي بموجبه تختار كل طائفة ممثليها إلى الندوة البرلمانية، فيتخلص المسيحيون من أزمة اعتمادهم على الصوت السنّي والشيعي عند اختيار نوابهم ... عون قدّر أن 27 نائباً مسيحياً فقط، يأتون بأصوات المسيحيين، أما البقية (47 نائبا) فتأتي بهم أصوات المسلمين، متسائلاً عن جدية وجدوى نظام “المناصفة” المعتمد حالياً، نظرياً على الأقل.
بصرف النظر عن دوافع الرجل ونواياه وتطلعاته الشخصية أو الحزبية، فقد كان من المتوقع أن تثير اقتراحات الجنرال انتقادات واسعة في صفوف القوى والأحزاب السنية والشيعية، فالاقتراح الأول، قد يحمل في طياته إرهاصات التحول من نظام برلماني إلى نظام رئاسي، أو أقله، عودة المسيحيين إلى لعب دور مركزي اعتادوا عليه، على رأس النظام السياسي اللبناني ... لكن الانتقادات الأهم لمشروع الجنرال جاءت من خصومه ومنافسيه المسيحيين، الذين أدرك كثيرون منهم، أن مثل هذا الاقتراح سيأتي بالجنرال رئيساً إلى قصر بعبدا، مدعوماً بأصوات أكثرية مسيحية في الجولة الأولى، تضاف إليه أصوات معظم الشيعة وبعض السنة في الجولة الثانية، وهذا ما لا تتوفر عليه، أية شخصية مسيحية أخرى.
لأسباب شخصية وانتهازية محضة، ترفض شخصيات مسيحية اقتراح عون لأنه سيخرجها من حلبة السباق إلى القصر الجمهوري، حتى وإن كان الثمن، إطالة أمد الفراغ الرئاسي، أو المجيء برئيس ضعيف كتسوية بين المرشحين الأقوياء، ومن ثم الاستمرار في مسلسل تهميش الدور المسيحي في النظام السياسي اللبناني ... مثل هذه المقاربات الفئوية الضيقة لم نرها عن أكراد العراق، الذين قاتلوا جميعاً لتعزيز نفوذهم في بغداد، وهم السائرون إلى تجسيد “حق تقرير المصير” على الأرض، قاتلوا من أجل “كردية” الرئاسة الأولى، مع أنها ذاهبة لا محالة إلى الاتحاد الوطني الكردستاني ... هنا المصلحة العامة والأهداف المُعرّفة تتحكم بالمواقف ... في لبنان حسابات أمراء الحرب والمليشيات والأحزاب، هي المقررة أولاً وأخيراً.
كان من المفهوم أن يرفض السنّة أولاً، وبقدر أقل الشيعة ثانياً، القانون الأرثوذكسي الذي أخرجه الجنرال من الأدراج التي رُكن فيها، لأن القانون سيفقد قادة هذين المكونين، فرصة التلاعب بإرادة المسيحيين واختياراتهم، وتوسيع كتلهم البرلمانية على حساب التمثيل المسيحي المستقل ... بيد أن اللافت في الأمر، أن المعارضة الأشد لهذا الاقتراح، جاءت من خصوم الجنرال المسيحيين، مع أنه سبق لهم التوافق تحت رعاية بكركي على هذا القانون، قبل أن يبدؤوا بالانقضاض عليه، تحت ضغط الحلفاء والممولين، وعلى أمل منع الجنرال من الحصول على مقاعد إضافية في المجلس النيابي، حتى وإن كانت النتيجة ذهاب هذه المقاعد إلى الطوائف والمذاهب الأخرى.
طبعاً، هناك دوماً “تغطيات” فكرية ونظرية يتدثر بها هؤلاء للتعمية على أسبابهم ودوافهم الحقيقية، منها حديث “الهوية الوطنية الجامعة” ومنها رفض “حلف الأقليات” ومنها “العروبة الجديدة” ... لكن المؤسف أنه كلما توغل أصحاب هذه النظريات في شرحها والذود عنها، كلما قل الطلب عليها والثقة بجديتها ... سيما وأن ماضي بعض القائلين بهذا الشعارات وتجربتهم، لا يسمحان لهم بتسويق “العروبة” و”الديمقراطية” على نطاق جدي وواسع، خصوصاً في اللحظة الراهنة، حيث العراق، موطن البعث والعروبة، يتجه نحو “قانون أرثوذكسي” خاص به، ومكوناته ما عادت تطيق العيش المشترك ... والخشية من حلف الأقليات، لا يبرر الاندماج والتماهي مع أغلبية طاردة وإقصائية، تتجه للانسياق وراء إيديولوجيات وهابية وسلفية، أو توظيفها والاستثمار فيها على أقل تقدير ... أما العروبة الجديدة، فلم نر لها وجهاً سوى “العداء لإيران” بعد إسقاط “العدو الرئيسي” للأمة، وهي عروبة ملازمة للمذهبية، ذات الطابع السنّي في طبعته السلفية الأكثر رواجاً، وتعد ملحقاً بها.
نحن معشر الديمقراطيين، ذوي “النزعات اليسارية”، ومن موقع الإيمان بفشل “دولة المكونات” والانتصار لـ “دولة المواطنة المتساوية”، لا تروقنا أفكاراً كلتك التي صدرت عن الجنرال، بيد أننا ومن موقع العقلانية السياسية، وفي ضوء ما يتراقص أمامنا من خيارات وبدائل كارثية، نرى أنها أهون الشرور التي تنتظر لبنان وتتربص، فهل يدرك “أهل الحل والعقد” في المجتمع المسيحي اللبناني هذه الحقائق، وهل يتداركوا ما تبقى لهم من حضور ومستقبل، قبل فوات الأوان؟ ... هل نحيلهم إلى أربيل والسليمانية لتعلم بعض دروس تغليب المصلحة العامة على المصلحة الخاصة؟