أخيراً وبعد تردد وارتباك كبيرين قرر المجلس الوزاري السياسي - الأمني المصغر توسيع عمليات الحرب والعدوان على غزة في إطار ما سماه عملية "الجرف الصخري الصامد"، التي لا يراد منها الدخول في حرب شاملة تصل إلى مستوى الاجتياح البري لقطاع غزة، مع أن بعض الخبراء والمحللين العسكريين الإسرائيليين يعتقد أن تواصل عمليات قصف مناطق داخل إسرائيل بصواريخ فصائل المقاومة في غزة والقصف الإسرائيلي المضاد الذي يشمل محاولات لاغتيال قيادات سياسية وعسكرية، قد يقود إلى تدحرج العملية إلى حرب واسعة وشاملة جوية وبحرية وبرية.
ليلة أول من أمس، كانت ليلة صاخبة في قطاع غزة وإسرائيل شهدت عشرات الغارات وعمليات إطلاق الصواريخ وهي بداية للعملية التي قررها المستوى السياسي الإسرائيلي وهذه مرشحة للتصاعد بشكل كبير في ظل إصرار الفصائل الفلسطينية على مواصلة الرد على العدوان الإسرائيلي. ولكن بالرغم من اشتداد حمى المواجهات تتمنى الحكومة الإسرائيلية التوصل إلى وقف إطلاق نار يعيد قوة الردع الإسرائيلية المتآكلة على قاعدة هدوء مقابل هدوء.
الموقف الإسرائيلي مبني على تحليل يقول إن حركة "حماس" تعيش أزمة مالية وسياسية خانقة تدفعها إلى المغامرة في محاولة لاستعادة قوتها ونفوذها محلياً وإقليمياً، وإن الجناح العسكري للحركة "كتائب عز الدين القسام" يجر القيادة السياسية خلفه في هذه المغامرة، ولهذا فإسرائيل غير معنية بالانجرار وراء الرغبة الحمساوية والدخول في حرب شاملة لا تعلم إلى أين تؤدي خاصة في ظل تدهور وضع ومكانة إسرائيل على المستوى الدولي وبالذات بعد جريمة المستوطنين البشعة ضد الفتى الشهيد محمد أبو خضير. وفي الواقع إسرائيل كانت تنعم بحالة من الهدوء تمكنها من مواصلة سياستها الاستيطانية بدون أي إزعاج أو أي ضغط جدي على أي مستوى. وهي ترغب في العودة إلى هذه الحالة بسرعة بعد أن حاولت استغلال عملية خطف وقتل المستوطنين الثلاثة في الخليل للتشهير بالسلطة الفلسطينية وبعملية المصالحة التي بدأتها مع حركة حماس ولكن هذا لم يستمر طويلاً حتى جاءت جريمة قتل الفتى أبو خضير النكراء التي غيرت وجهة الأحداث دولياً وأدت إلى ردود فعل شعبية قوية في مناطق فلسطينية مختلفة ولكنها تركزت أكثر في المدن والقرى الفلسطينية داخل إسرائيل وفي مدينة القدس المحتلة.
عدم رغبة إسرائيل في الانجرار إلى حرب برية واسعة في القطاع يجب ألا يقود أحداً إلى الوهم والاعتقاد بأن الحكومة الإسرائيلية بالرغم من ترددها وضعفها النسبي ستسمح بأن تخرج مهزومة بشكل كامل من هذه المعركة حتى لو اضطرت لخوض حرب قد تخسر فيها جنوداً ومواطنين. فالموضوع دائماً مرتبط بالتوقيت والظروف. وحتى لو لم تدخل إسرائيل في حرب برية سيكون باستطاعتها القيام بعملية تدمير واسعة النطاق في قطاع غزة وهذا ما تبشرنا به في العملية الحربية القائمة.
حتى الآن يبدو أن إسرائيل وحركة حماس تلعبان في الهوامش ولا ترغبان بالتصعيد إلى مستوى الحرب الشاملة. فـ"حماس" تريد استعادة مكانتها كفصيل مقاومة يحظى بالدعم الشعبي وإلى حد ما الرسمي عربياً وإسلامياً وهو ما قد يعيد لها جزءا من التمويل الذي كانت تحصل عليه في السابق من بعض الدول العربية وغير العربية التي توقفت بعضها عن هذا الدعم بسبب مواقف "حماس" السياسية. ولا تريد "حماس" أن تصل إلى وضع تقرر فيه إسرائيل القضاء على سلطتها وقدراتها بشكل كبير.
أما إسرائيل فهي لا تريد أن تواجه دولياً باتهامات بارتكاب جرائم على غرار تقرير غولدستون، فحرب دموية واسعة ستؤدي بالضرورة إلى استشهاد أعداد كبيرة من المدنيين الفلسطينيين وهذا سيفتح من جديد ملف الصراع ويشير بأصبع الاتهام للاحتلال الذي ينبغي أن ينتهي، وإلى مواقف حكومة بنيامين نتنياهو التي أفشلت العملية السياسية التي قادها الأميركان من خلال وزير الخارجية جون كيري. ومن ناحية أخرى لا تريد إسرائيل في هذه المرحلة شطب قوة حركة حماس وإسقاط حكمها في غزة. ولا تزال تعتقد أن وجودها كطرف مهيمن في غزة مهم لأسباب سياسية تتعلق بوجود الانقسام ووجود طرف فلسطيني رافض يشكل شماعة لعدم التقدم في عملية المفاوضات بحجة أن القيادة لا تسيطر على كامل مناطق السلطة والدولة الفلسطينية العتيدة. وأسباب أمنية تتعلق بقدرة ورغبة "حماس" في الحفاظ على التهدئة وضبط الحالة الأمنية في القطاع، وهي لا ترغب في أن تتولى السلطة هذا الدور الذي لن تكون قادرة عليه على المدى القريب.
ولكن بين الرغبات والواقع قد تحدث أشياء تقلب الموازين وتغير المعادلات وتجبر الأطراف على اتخاذ قرارات مخالفة للتخطيط والتفكير الأولي السابق لتطورات قد لا تكون في الحسبان. فلا أحد يضمن أن تبقى لعبة الحرب على نار هادئة في إطار محاولة كل طرف تحسين مواقعه والتوصل إلى هدنة جديدة بشروط أفضل.
وحدها السلطة الوطنية غائبة عن المشهد ودورها ثانوي في هذه التطورات، وتعيش حالة تراجع على المستوى الشعبي بسبب ضعف الحضور والتأخر في اتخاذ المواقف المطلوبة هذا أن اتخذتها أصلاً، وهي تشعر أنها لاعب احتياط أو على الأقل هذا ما اختارته لحين اتضاح الصورة. مع أن القيادة الفلسطينية لديها الكثير من الأوراق لتكون أكثر حضوراً في هذا المشهد الصعب وبحد أدنى في وعي الجماهير التي تنتظر مواقف قوية مختلفة من السلطة.