إذا كان النص الديني يقول إن مرض الإنسان يُكفِّر خطاياه، والشوكة التي تغز جسدك، تمحو ذنبا، فعلينا أن نسأل لحظتها، عن هذا العقاب الجماعي الذي يعيشه الشعب الفلسطيني منذ ستين عاما وأكثر، وما إذا كان هذا العقاب متبوعا بعقاب آخروي؟!.
والفكرة فلسفية للغاية، لا تمنح الفلسطيني قداسة، ولا دما أزرقَ فوق الأمم، لكنها تسأل في عمقها عن أولئك الذين خسروا كل شيء، بيوتهم وأرضهم ، وتشردوا في الدنيا، بعضهم عاش مكرَّماً هنا وهناك، وبعضهم عاش في غرفة من الصفيح، تحتل عينيه قبل جسده.
إذا كانت الشوكة التي تؤذي مؤمنا تغفر له من خطاياه، فما بالنا بإسرائيل وهي هنا شوكة كبرى، آذت شعبا بأكمله، وهو شعب تراه مجروحا، رأيته يسكن في قصر، أم في بيت صفيح، والرابط الوجداني بين هؤلاء وفلسطين، لا يغيب، رأيت الفلسطيني ميسورا أو ثريا، فقيرا مدمرا، مؤمنا ملتزما، أو لاهيا عابثا، فمنسوب الخسارة يغطي على كل هذه التفاصيل؟!.
تلك المآخذ التي صنعها الإسرائيليون، وبثوها، ويرددها بعض العرب كالببغاوات، عن شعب هرب من بلاده، عند اول رصاصة، وان بعضهم باع ارضه، ويلهو في عواصم العالم، كلام لا يصمد أمام الواقع لمن أراد أن يراه، فأغلب الذين خرجوا ذات يوم، خافوا على أعراضهم من الأذى والهتك، وأغلبهم أيضا لم يكن معهم رصاصة بلاستيكية للرد على القادم الجديد، ومثل هؤلاء ضحايا، لا يصح أن يلاموا على مشهد له أسراره الاجتماعية، و واقعه العربي المخزي، الذي تركهم فرادى آنذاك، فلم يجدوا طريقا سوى الطريق المعد سلفا لهم، والمخطط لهم جيدا، وليحكي لنا أيضا بعض العرب عن بطولاتهم الغائبة، حتى يصح لحظتها، انتقاص هؤلاء، مقابل بطولات غيرهم.
في القصة هنا، ما هو أعمق، من اللحظة، من الذين يموتون في غزة، والذين يتم حبسهم وقتلهم في الضفة، والذين لم يجدوا جواز سفر عربي يحتضنهم في الثمانية والأربعين، وتتم إعابتهم بذريعة الجواز الاسرائيلي، ممن ثقلت مؤخراتهم في كل الحروب، ومعهم كثرة تم الدوس عليها في سورية والعراق وليبيا، ودول أخرى، شردتهم وقتلتهم، وما قبلتهم أرض عربية، لا في ما هو فوقها، ولا حتى لقبر تحتها، وبعضهم اليوم في البرازيل.
لا أحد يعرف الغيب، ولا أحد يمنح جنساً قداسة وعفوا وغفرانا مسبقين، فالأمر بيد الله، وحده العفو الكريم، لكننا نسأل من باب حسن الظن بالله، حول حساب الغزيين وأهل الضفة، وحتى الذين صمدوا وجلسوا في وجه إسرائيل في الثمانية والاربعين، وتلك الشبكة الروحانية الوجدانية المتصلة بينهم جميعاً وبين أقاربهم في كل الدنيا.
نسأل عن كل أولئك الذين توزعوا في الدنيا، وملامة العرب عليهم، الثراء أو النجاح، وتهمة «نسيان فلسطين» وهي تهمة جائرة، لأن بعضهم يتمنى لو أن له عربة خشبية تبيع الصبر أو التين عند باب العامود في القدس، بدلا عن فلل وقصور المغتربات.
عن كل هؤلاء نسأل، وكلهم لهم ذنوبهم، الصغيرة والكبيرة، لكننا أيضا، على ذات مبدأ الشوكة في الحديث النبوي...نقول هل سيحاسب الفلسطيني هنا مرتين، وهل سيعذب مرتين، في الدنيا والآخرة، وما قيمة ذنبه الفردي، أمام ابتلائه الفردي والجماعي، واذا كان هؤلاء سيحاسبون مثل غيرهم، وبذات المعيار الآخروي، فماذا نقول عن حساب الذين خذلوهم، وتركوهم، ولذعوهم بسوء الكلام، أو أهانوهم وشردوهم، وكرهوا فلسطين ذاتها، لأجل كراهتهم لشخص فلسطيني، مارس فعلا سيئا، أو لم يكن على ُخلق، أو لم يكن على مقاس من أمامه إذ يريده يتيما، مطأطئ الرأس، لايفتح فمه بكلمة.
الشوكة تحط من خطاياك، وأحْسَبُ أنَّ الله أعزُ وأجلُ وأكرمُ وأرحمُ منْ أن يحاسب الفلسطيني في آخرته، بذات معيار غيره، فقد جاء اليها متطهرا، من ذنوبه مسبقا، بكل هذا البلاء المبثوث في حياته ودمه، هذا فوق الاختيار الإلهي الأساس وفيه تكريم لهم، بوضعهم في وجه هؤلاء الغزاة، من دون أحد غيرهم، من أمَّة العرب والمسلمين، هذا فوق أنهم يقفون في وجه هذا الاحتلال، نيابة عن أمَّة بأكملها.
الخطايا الفردية مغفورة عند الكريم، وماهو مهم هنا، تلك الخطايا التي تمس مصالح أمَّة بأكملها، وهؤلاء وحدهم يستحقون العذاب، لأنهم فرَّطوا بحقوق أمَّة، فيما غيرهم -لحسن الظن بالله-مرحومون أو مغفور لهم، أو في الجنة أو الأعراف.
أما جهنم هنا، فليست إلا للخونة منهم، والآخرون سبق أن عرفوها في دنياهم ، والله لا يعذب مرتين!.
...أيوب صاح اليوم ملء السماء: لا تجعلوني عبرة مرتين!.