حين يقول أحدنا في لحظة انفعال أن نصف العرب يستحقون الحرق، يكون تلقائياً قد وضع نفسه على النصف الذي يستحق الحياة، وحين يتحدث عن القصور القومي إزاء ما يجري في غزة وما جرى قبله في العديد من العواصم يستثني نفسه أيضاً، وحين يعيد كل هذا الفساد والاضطراب إلى عطب أصاب البوصلة الأخلاقية يبقى وحده المعصوم، وإذا تم تشخيص هذا الداء وتحديد جرثومته وهو التهرب من النقد الذاتي والانهماك في تبرئة النفس يصبح البدء من أول السطر ممكناً، فنحن نعيش ونتعذب ونتقاتل ونموت فرادى، ولكل منا ليله وليلاه، لكن ما يجهر به نهاراً يهمس به ليلاً لنفسه ساخراً مما قال.
لهذا لم تعد الشيزوفرينيا حالات مرضية بقدر ما هي وباء اجتماعي وظاهرة شمولية لم يسلم منها المثقف والموظف والعامل إضافة إلى الساسة والجنرالات.
وحين تحدّث المستشرقون عن هذه الظاهرة في حياتنا كذبناهم وقلنا أنهم يسقطون أفكارهم وتربوياتهم الاستشراقية على بلادنا. وقد يكون هذا صحيحاً بمقياس ما لكن الوعي يحمي صاحبه من أن تأخذه العزة بالاثم، وما كان للمشهد العربي أن ينتهي عند هذه الكوميديا الصفراء لا السوداء لولا أن المقدمات كانت كارثية، وكذلك التربويات التي لا تضخم الذات فقط بل تسرطن عافيتها.
بالأمس استوقفني مشهد يحتاج إلى زمرة من علماء النفس والاجتماع والانثربولوجيا لتحليله، هو باختصار فتاة تبكي وعلى وشك الإغماء، ظن من شاهدوها أن لها أقارب في القطاع الذي شملته القطيعة القومية برعايتها، لكن ما حدث بالفعل هو أن الأرجنتين لم تكسب كأس العالم، ولكي يكتمل المشهد بكل كوميديته الصفراء، كان شبان وصبايا قد رسموا علم ألمانيا على وجوههم وساروا في الشوارع، ولو شاهدهم سائح قادم للتو لظن أنها مسيرة احتجاج على ما يحدث لذويهم من ذبح في غزة.
قد يقول البعض أن هذه المشاهد يجب أن لا تستوقفنا فالعالم كله استغرق في هذه اللعبة، عندئذ نطلب من هذا القائل أن يغمض عينيه لدقيقة واحدة، ويتخيل ألمانيا وقد تعرضت لغزو حوّل ليلها إلى ظلام يعج بالأشباح ودمر عمارات بحيث سقطت سقوفها وجدرانها على مهود الأطفال، كل ما نطلبه منه هو دقيقة خيال لعله يرى في شوارع برلين المظلمة وبين أشلاء البشر فيها أفراداً يحملون أعلام المونديال ومنهم من ينتحب على خسارة هولندا أو فرنسا أو المريخ..
لكن الخيال شأن العديد من الأشياء المنقرضة، لم يعد ممكناً استخدامه ولو لدقيقة واحدة!