بقلم : د.مراد الكلالده
لا يخفى علينا ان البوصلة قد تاهت والأوراق إختلطت لدرجة الانقسام والإقتتال الدموي الحاد، فكيف لنا ان نسترشد الصواب ونستدل الطريق، بعد أن أصبح وجودنا مهدد وممتلكاتنا عرضة للنهب والتدمير
وطريقة حياتنا عرضة للتدخل السافر، فهل أزف الرحيل كما يدعوا اليه البعض.
جوابي على ذلك هي (لا) كبيرة، لأن ما نعيشه هي مرحلة تم تأجيلها بواسطة أنظمة أطالت عمرها على حساب التنمية الحقيقية لشعوبها، فما أن طفح الكيل، حتى ظهرت جميع التناقضات المستترة الى السطح، فأين تكمن المشكلة.
مما لا شك فيه أن قيام دولة إسرائيل في العام 1948 ضمن محيط عربي بغالبية مسلمة قد زرع بؤرة دائمة للتوتر فما هي الخيارات المتاحة أمام العرب للتعامل مع هذا الكيان المصطنع.
الخيار الأول هو مقاومة هذا الكيان لأنه إقيم على أراضي منهوبة من مالكيها الأصليين وشردهم في الأرض ليضمن اكثرية عددية ضمن حدود قابلة للتوسع في أي لحظة من خلال نشر المستوطنات في الاراضي المحيطة والتي شملت في مرحلة ما أجزاء من لبنان ومصر والاردن وما زالت تحتل هضبة الجولان السورية. فكيف لنا نحن العرب أن نأمن جانب هذا الكيان ما دام انه يستند الى فرضية توراتية تؤهله لنشر كيانه ما بين الفرات والنيل.
الخيار الثاني يتمثل في التعايش مع هذا الكيان من خلال إتفاقيات سلام تقيم نوعاً معينا من التوازن بين الفرقاء، وهذا ما تم مع السلطة الفلسطينية ومصر والأردن.
لقد توزعت قناعات الشعوب العربية ما بين الخيارين الأول والثاني، وكانت الغلبة لأتباع الخيار الأول والقاضي بمقارعة الإحتلال الاسرائيلي لإنتزاع دولة فلسطينية مستقلة على حدود 1967وساعد اتباع هذا التيار الصلف الاسرائيلي الذي لم يقم اعتباراً للمعاهدات التي ابرمها مع شركاء السلام ودموية القائمين على هذا الكيان التي فاقت التصورات لبشاعتها.
أتباع الخيار الثاني، ما زالوا ينادون بالسلام سواء كانوا مقتنعين بذلك او لإرتباطهم بدوائر تصب مباشرة في دعم هذا الكيان من خلال الإنحياز التام والمعلن للولايات المتحدة والغرب لإسرائيل، هؤلاء تضيق امامهم مساحات المناورة بسبب تعنت إسرائيل كما سبق وأوضحنا وباتوا في مواجهة أغلبية شعبية ترفع شعار المقاومة وتنفذه ولو بأضعف الإيمان.
لقد أصبح واضحا للدوائر الغربية بأن سيادة إسرائيل لا يمكن ان تتم الا بدمار محيطها، فصنعت هذه الدوائر ما يسمى بالقاعدة بتمويل عربي، ونشرتهم في الدول التي جائو منها لتنشر (الفوض الخلاقة) مستغلة بذلك الطوائف والملل الدينية التي تختلف فيما بينها حتى على مواعيد الصلاة وطرق الوضوء، فما مصلحة إسرائيل بذلك.
إن انتشار الفوضى والتخلف سيجعل من اسرائيل واحة أمن وسلام مسوّرة في ظل محيط متخلف سيمكنها من عبور عقود من الزمن ترسي فيها اسس هذا الكيان ليصبح واقع يصعب تغيره.
القراءة السابقة هي لمن يؤمن بالصراع السياسي ومهملاً للصراع الطبقي الذي يقلل من الهويات الفرعية والطائفية لصالح الموقف من وسائل الإنتاج، فهل هناك طبقة عاملة في إسرائيل نعول عليها لتغيير مجريات الصراع من (ديني- قومي) لصراع (طبقي).
لقد تنبه الى هذا الصراع رواد الحركة العمالية في فلسطين، والذين اسسوا في العام 1919 ما سمي بالحزب الشيوعي الفلسطيني الذي جاء كإمتداد لعصبة التحرر الوطني التي ضمت نشطاء عرب ويهود، وانفرد من تبقى منهم في حدود دولة إسرائيل بتشكيل الحزب الشيوعي الإسرائيلي (راكاح) وقد كان لهذه التسمية وقع غير محبب على العرب فآثروا عدم التعامل معه على الرغم من معاداة الحزب للصهيونية وتبنيه لحل الدولتين. وقد سُئل يوما ما في ندوة عامة في برلين عضو المكتب السياسي للحزب وعضو الكنيست الاسرائيلي لعدة دورات المناضل توفيق زياد صاحب الاشعار الوطنية التي الهبت حماس الجماهير العربية ومنها (أناديكم ... اشد على أياديكم، وأبوس الأرض تحت نعالكم، وافديكم ضيا عيني ...) عن سبب التسمية فقال باسلوبه البسيط والقريب من الناس، نحن نعيش في دولة اسمها إسرائيل، وهذا واقع شئنا ام ابينا، فكان خيارنا ان نسمي الحزب بالشيوعي الإسرائيلي، ولو كنا نعيش في بطيخة، لأسميناه الحزب الشيوعي البطيخي.
لقد أدرك اليسار الفلسطيني ان له حليفاً مهما يتواجد في اراضي 48 وله نواب في الكنيست وصل عددهم من خلال التجمع الوطني الديمقراطي لسبعة اعضاء وهم مناضلين قمة في العطاء والوطنية، نذكر منهم الدكتور عزمي بشارة، فلماذا نسميه بالذات بدلاً من غيره.
حقيقة، أن الدكتور عزمي بشارة هو مرجع علمي مهم يفهم تاريخ ومباديء الحركات اليهودية، وهو المتخصص بها في الجانب النظري وقد تعرفت عليه في جلستين الأولى في مدينة هالة والثانية ببرلين في المانيا في الثمانينات من القرن العشرين المنصرم، حيث كان يعد رسالة الدكتوراة في جامعة هومبولت ببرلين، وقد كان يأخذ علينا الفتحاويين تواصلنا مع (راكاح) بينما كان رواد اليسار من الجبهتين الشعبية والديمقراطية يغضون الطرف لمعرفتهم بمواقفنا الداعمة بالمطلق لكفاح الشعب الفلسطيني لإقامة دولته المستقلة على الارض الفلسطينية.
الدكتور عزمي بشارة، إبن الناصرة، كان شوكة في حلق دولة الإحتلال فقد انتخب ثلاث مرات عضواَ في البرلمان (الكنيست) الاسرائيلي في الأعوام 1996، 1999، 2003 وقد اصيب برصاصة مطاطية اثناء اشتراكه بمظاهرة مناهضاً لأمر هدم بيت عربي في مدينة اللد، وقد قرر في نيسان 2007 ان يستقيل من الكنيست، واختار ان يتنقل بين الدول ليكمل طريقاً خاصاً اختطه لممارسة العمل السياسي، فهل خدمت تلك الاستقالة قضايا النضال الوطني التحرري.
إن ظهور بشارة المتكرر على قناة الجزيرة الفضائية قد أكل من رصيده الذي كان قد بناه اثناء تواجده في إسرائيل، وذلك بسبب ما يشاع عن دور قطر في (الفوضى الخلاقة) التي أدخلت العالم العربي في أتون التخلف والإقتتال على اسس طائفية ودينية خلافاً لما كان ينادي به (نظرياً على الأقل) بأن المجتمعات تتطور وفقاً للتناقض الطبقي فيما بينها، فهل سقط بشارة، وقلب القارب الذي حمله وأغرق اليسار في محيط مليء باسماك القرش المتعطشة للدم.
لقد اختار بشارة التدخل في الصراع العسكري مع اسرائيل من خلال علاقاته مع حزب الله، واظنه قد استطاع ان يشبع رغبة القطريين في اخذ مكان في مسرحية الفوضى الخلاقة، فكانت ساحات تونس وليبيا ومصر وسورية واليمن ملعباً لتنفيذ هذا المخطط، فهل تكتمل الدائرة بدون القضية المركزية في الشرق الأوسط، دعونا نرى.
الساحة الفلسطينية منقسمة عاموديا بين فريق السلطة المتعاونة مع إسرائيل وفقاً لمعاهدة أوسلو، وفريق رافض لها، بما يعيدنا الى أتباع الخيارين الأول (المقاوم) والثاني (المسالم) فما الرابط بين الفوضى الخلاقة وبين ما يجري في فلسطين.
اعتقد جازماً بأن العدوان المتكرر على غزة كل سنتين تقريباً هو التطبيق العملي لنظرية الفوضى الخلاقة بإطارها الضيق على ما تبقى من أراضي فلسطينية، فما مصلحة إسرائيل بذلك.
الجواب موجود ضمنياً في معادلة الصراع داخل المجتمع الإسرائيلي والذي لا يترك مجالاً لتطور الصراع الطبقي الذي سيحد من نفوذ الإمبرالية (الامريكو-اسرائيلية) لذلك نرى ان الغالبية العظمى من الشعب اليهودي مصطفة خلف الحكومات الصهيونية المتطرفة، فلا صوت يعلوا على صوت المعركة.
واهم من يظن أن اسرائيل ترغب في القضاء على حماس أو الجهاد الإسلامي، وهي تعلم ان كل قطرة دماء تنزف من الشعب الأعزل سيزيد حقد العرب عليهم وستصب الأصوات المؤيدة لحماس في صناديق الإقتراع في الدول العربية، وهذا هو المطلوب لإبقاء الصراع بعيداً عن الطبقية قريباً من الطائفية المقيتة التي تنمو في قِدر الفوضى الخلاقة، فهل هذه البشارة يا عزمي.