أخر الأخبار
قراءة عقلانية لخطاب مجنون
قراءة عقلانية لخطاب مجنون

الكاشف نيوز: بقلم فؤاد أبو حجلة.

في الاعلام التحريضي تتراجع القيم المهنية، وتنحسر الحقيقة أمام سيل الأكاذيب والمبالغات والأوهام التي تحول أي منبر إعلامي إلى مجرد بوق صديء ينعق بالخراب. وفي هذا تختلف المنابر التحريضية التي تتكاثر في بلادنا عن المنابر الموجهة القائمة في الولايات المتحدة والدول الأوروبية لخدمة الرؤى السياسية وتطوير السياسات قبل ترويجها في العالم. فالمحرضون مجرد أدوات لتلميع التوجهات المغبرة والانحيازات المشبوهة، بينما الموجهون يشاركون في صنع البرامج السياسية ويغطون تنفيذها، كما أن الاعلام الموجه يخاطب الآخر (العالم الخارجي) بينما يكتفي الاعلام التحريضي بمخاطبة الذات والنفخ في مراجل التوتير. وفي الحالتين، تظل الحقيقة غائبة.

وغالبا ما يقتات الاعلام التحريضي على فضلات الاعلام الموجه، فينقل ويعيد انتاج ما ينشر وما يقال وكأنه حقائق مقدسة ووقائع منزهة عن الشكوك وليس معلومات قابلة للتحقق والاستجواب. وكثيرا ما تؤكد الوقائع زيف هذه المعلومات، لكن الكشف لا يحرج المنابر التحريضية ولا يدفعها إلى إعادة النظر في ما تنشر وما تبث، ناهيك عن الاعتذار للقاريء أو المستمع أو المشاهد.

الأمثلة كثيرة على السقطات المهنية للمنابر التحريضية لكن ما لفت انتباهي في الأيام القليلة الماضية كان السقطة التي تورط فيها موقع إخباري جديد يشكل مع صحيفة يومية وقناة تلفزيونية مشروعا إعلاميا كبيرا أطلقته دولة قطر تحت إشراف "المفكر العربي الكبير" عزمي بشارة، ليكون رديفا وبديلا جاهزا لقناة الجزيرة التي فقدت الكثير من جمهورها ومن قدرتها التأثيرية في الشارع العربي نتيجة انحيازها المكشوف للقوى الرجعية التي امتطت ثورات الربيع العربي وجيرتها لصالحها ولصالح البرنامج الأمريكي في المنطقة من خلال تفجيرها من الداخل وحرفها عن مسارها الثوري.

نشر الموقع إياه تقريرا من طرابلس بعنوان "ليبيا ومصر والامارات.. ودحلان رابعهم" يتناول ما أسماه "تأكيد" المسؤولين الأمريكيين" وقوف الأمارات ومصر وراء الهجمات الجوية على مواقع للميلشيات في العاصمة الليبية. وقد بدأ التقرير بالاشادة بموقف المسؤولين الأمريكيين الذين "لم يستطيعوا الصمت" على "القصف الاماراتي – المصري" لطرابلس قبل أن يعود ليؤكد أن هذا القصف تم بالتنسيق مع الولايات المتحدة!!

وعرض التقرير سيناريوهات سينمائية للمشاركة الاماراتية المزعومة في هذا القصف منها مثلا شحن الطائرات الإماراتية مفككة إلى طرابلس ثم إعادة تجميعها وتركيبها هناك لتقلع وتقصف مواقع المليشيات المعنية، لكن كاتب التقرير انتبه فجأة إلى أن هذا السيناريو صعب الهضم فعاد ليقول إن الطائرات الإماراتية المشاركة في العمليات كانت أصلا رابضة في مصر وانطلقت من الأراضي المصرية لتشارك في القصف!! وفي السيناريوهين ما يوحي بأن الموقع الالكتروني يمتلك قدرات استخبارية أقوى وأدق من الاستخبارات الأمريكية التي عجزت عن تحديد كيفية المشاركة الإماراتية في عمليات القصف، فلو كانت السي آي ايه تعرف التفاصيل لكنا سمعناها من المسؤولين الأمريكيين الذين "لم يستطيعوا الصمت". وهنا تتجلى قدرات الإعلام القطري وموهبة منسقه "المفكر العربي الكبير" الذي يبدو أن قدراته الاستخبارية لا مثيل لها في الإقليم!! فالتقرير يؤكد أن غرفة عمليات خاصة تعمل في الامارات بقيادة القيادي الفلسطيني محمد دحلان هي التي تخطط لهذا التدخل الاماراتي – المصري في الشأن الليبي.

في الواقع، كان الأمريكيون قد اتهموا مصر والامارات بالمشاركة في قصف مواقع للمليشيات الليبية في طرابلس، لكن واشنطن سرعان ما تراجعت عن هذا الاتهام وعادت في اليوم الثاني لتنفي تصريحا بهذا الشأن لجين ساكي المتحدثة باسم الوزارة. وذكر بيان صادر عن الوزارة أن الخارجية الأمريكية لم "تتهم" لكنها أشارت إلى تقارير صحفية تتضمن هذا الاتهام. بالطبع، لم يكن المقصود هنا هو التقرير المنشور في الموقع المذكور، لكن الخارجية الأمريكية كانت تشير إلى تقرير نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" وهي صحيفة معروفة بقربها من اسرائيل واللوبي اليهودي في الولايات المتحدة، الا إذا استطاع "المفكر العربي الكبير" تحويلها إلى صحيفة عروبية ثورية التوجه!! ومن يعرف كيف يفكر "المفكر" يدرك قدرته على تغيير الأشياء وقلب المواقف، ولعل موقفه من سوريا مثال على عبقرية التحول والانقلاب على الذات.

لكن، وعلى أرضية الانسياق وراء الوهم، وتصديق المزاعم التي تضمنها التقرير، فإن المسؤولين في مصر والامارات ومحمد دحلان يقفون مع البرلمان الليبي ومع القوى المنتخبة، بينما تقف الولايات المتحدة وقطر و"المفكر العربي الكبير" مع تنظيم القاعدة والمليشيات المسلحة التي تريد تقسيم ليبيا والعودة بها إلى مرحلة ما قبل اكتشاف الكهرباء.

قبل هذا التقرير قرأنا تقارير أخرى تتضمن سيناريوهات مثيرة عن أدوار قوى وشخصيات في المنطقة يقدمها لنا الاعلام القطري وكأنها قوى وشخصيات خارقة يتجاوز فعلها وتأثيرها حدود الدول وقدرات البشر، وكنا نستغرب كثيرا من تصديق البعض لهذه السيناريوهات. لكن يبدو أن الخيال الهوليوودي استطاع اختراق بعض العقل العربي، وخاصة عقول "المفكرين العرب الكبار".