رُبَّ ضارةٍ نافعةٍ؛ فحكومة نتنياهو، التي ما انفكَّت تسعى إلى تقويض المصالحة الفلسطينية باعتبارها مَصْدَر تهديدٍ لمصلحة إسرائيلية استراتيجية تقضي ببقاء الانفصال الاستراتيجي بين قطاع غزة والضفة الغربية، دَفَعَتْها مصلحة سياسية شخصية (في المقام الأوَّل) لنتنياهو إلى مصادَرِة نحو 4 آلاف دونم من أراضٍ للفلسطينيين في الضفة الغربية (قُرْب بيت لحم) لغاية التَّوسُّع الاستيطاني؛ فأعادت، بفعلتها هذه، وعلى ما يُفْتَرَض، قطار المصالحة إلى سِكَّتِه، بعدما بدا أنَّه يوشك أنْ يَخْرُج عنها (بعد وَقْف إطلاق النار في قطاع غزة).
نتنياهو المُفْلِس، والمهزوم، مع جيشه، ونخبة جيشه، في قطاع غزة، أراد أنْ يُعَوِّض (بفعلته هذه، غير المشروعة في القانون الدولي) ولو شيئاً من خسارته الكبرى في حرب "الجرف الصامِد"؛ فشعبه لا يرضيه إلاَّ سفك مزيدٍ من دماء الفلسطينيين، أو الاستيلاء على مزيدٍ من أراضيهم؛ ومع ذلك، لا بدَّ للفلسطينيين من أنْ يُقارنوا؛ ففي قطاع غزة شَقَّ على الجيش الإسرائيلي، وتَعَذَّر، احتلال ولو بضعة أمتار مربَّعة من "أرض المقاومة"؛ أمَّا في الضفة الغربية فَتَسْتَسْهِل إسرائيل مصادَرة نحو 988 فدانا من الأراضي الفلسطينية!
نتنياهو، وقَبْل "قرار المصادَرة"، صَوَّر لشعبه هزيمته في قطاع غزة على أنَّها "حِرْصُ قائدٍ على أرواح جنوده"، إذْ قال: "حِرْصاً (منه) على أرواح جنود جيش إسرائيل، أَمَرْتُ بخروج جنودنا سريعاً من أراضي القطاع (أيْ من بضعة أمتار مربَّعة سُمِحَ لهم بالاستيلاء عليها)"؛ لكنَّ هذا "القائد"، الذي اضطَّرَب تفكيره السياسي، لم يَتَجَشَّم إجابة سؤال: إذا أنتَ فَعَلْتَ ذلك حِفاظاً على أرواح جنودكَ، فَمَن يتولَّى عن الجيش الإسرائيلي مهمَّة نَزْع السلاح من يد المقاومة في قطاع غزة؟
إدارة الرئيس أوباما، المَدْعُوَّة، في "خطَّة عباس"، إلى ترسيم حدود الدولة الفلسطينية، مع جَلْب اعتراف إسرائيلي بهذه الحدود، قالت في "قرار المصادَرة" ما قالته دائماً؛ لقد قالت: "ندعو الحكومة الإسرائيلية إلى العدول عنه؛ إنَّنا نعترض دائماً على استمرار النشاط الاستيطاني؛ هذا القرار لا ينسجم مع هدف إسرائيل المُعْلَن وهو التوصُّل إلى "حلِّ الدولتين" من طريق التفاوض مع الفلسطينيين".
وهذا القول هو "فِعْلٌ" يسمَّى "اللافِعْل"؛ ولا يُتَرْجَم، إسرائيلياً، إلاَّ بمزيدٍ من التوسُّع الاستيطاني؛ أمَّا فلسطينياً فلا يُتَرْجَم إلاَّ بمزيدٍ من الشعور بـ "الإحباط التفاوضي" لدى الفلسطينيين الذين عَبَدوا "خيار الحل التفاوضي" حتى استعبدهم.
الرئيس عباس، في "خطَّته"، يُمْهِل إدارة الرئيس أوباما 4 شهور لترسيم حدود الدولة الفلسطينية (بما يُوافِق التزامها حدود 1967 أساساً لـ "حلِّ الدولتين") ولجَلْب اعتراف إسرائيلي بهذه الحدود؛ وأنا شخصياً أُمْهِل الولايات المتحدة 4 سنوات لـ "إقناع" إسرائيل بوَقْف توسُّعها الاستيطاني؛ فإنَّ زمناً طويلاً قد استنفده المفاوِض الفلسطيني في سعيه إلى إقناع المفاوِض الإسرائيلي بحلٍّ معادلته "الأرض مقابل السلام"؛ فإذا بوحش الاستيطان يفترس (في الزَّمن التفاوضي الطويل) الأرض، مُقَوِّضاً، من ثمَّ، تلك المعادلة.
إنَّه "الانتظار"؛ فماذا يَنْتَظِر المُنْتَظِرون؟
ينتظرون رؤية الولايات المتحدة تَفْشَل في ترسيم الحدود، ورؤية مفاوضات غير قابلة للاستئناف، ورؤية مجلس الأمن الدولي يَفْشَل في "إجلاء إسرائيل عن أرض فلسطين"، ورؤية الاستيطان (مع التهويد) يزداد ويتَّسِع، ورؤية الإعداد (والتحضير) الطويل لإجراءات "محاكمة قادة إسرائيل"، ورؤية مزيدٍ من الخفْض في تكلفة الاحتلال الإسرائيلي في الضفة الغربية؛ وإنَّ أخشى ما أخشاه أنْ نرى (عمَّا قريب) انهياراً للمصالحة الفلسطينية، فانهياراً للمفاوضات غير المباشِرة والتي مدارها الميناء البحري والمطار والأسرى، فَمَنْعاً لإدخال مستلزمات إعادة البناء إلى قطاع غزة، فعودةً إلى التَّشَدُّد في سياسة الحصار، فتَفاقُماً في الأزمة المعيشية لأهل القطاع، والتي يُضاعِف من وطأتها حجم الدمار الهائل.
ما العمل؟
ليَدَعْ الفلسطينيون الرئيس عباس يُجرِّب "خطته"؛ على أنْ يرتبط هذا "التَّجريب" ببقاء وتعزيز "الوحدة الفلسطينية"، وبالمضي قُدُماً في تنفيذ "اتفاقية المصالحة"، وبتحرير خيار المقاومة الشعبية في الضفة الغربية من كل قيوده.
----------
ظاهرة "الاعتماد في البقاء"!
السياسة (الدولية على وجه الخصوص) في عالَمِها الواقعي تَعْمَل بمبدأ "الاعتماد لا الانتماء"، والذي، على ما يتَّضِح من ممارسته وتجربته العملية، لا يَكْتَرِث أصحابه، والعامِلون به، كثيراً للمُعْتَقدات والأفكار والمشاعر ما دام صاحبها (أكان من الأفراد أم من الجماعات والدول) يتَّصَرف ويَعْمَل بما يُوافِق مصالحهم، ويخدم مآربهم؛ وهذه الظاهرة السياسية العالمية لا تعليل، ولا تفسير لها إلاَّ اعتماد طرفٍ ما على غيره، في البقاء، وفي تلبية حاجاته الأَوَّلية؛ فالقوى الغربية، وفي مقدَّمِها القوَّة العظمى في العالَم، أيْ الولايات المتحدة، تؤسِّس لصلةٍ مع دولٍ، في هذه الصلة، وبها، تَعْتَمِد هذه الدول (اعتماداً قوياً ومتزايداً) في مُقَوِّمات عيشها ووجودها عليها، ولا تستطيع، من ثمَّ، إلاَّ العيش السياسي في طريقة يتأكَّد فيها، في استمرار، أو على وجه العموم، الانفصال بين "القول" و"الفعل"، أو "انتهازيتها السياسية"؛ فإنَّ "الانتهازي" لا يكون بتغيير "المُعْتَقَد"، وإنَّما بَجَعْل "المُمارَسة" و"المُعْتَقَد" على طرفيِّ نقيض.
إنَّ كل دولة ينبغي لها، أوَّلاً، أنْ تَسْتَقِلَّ بمقوِّمات عيشها ووجودها، وأنْ تنأى بها عن غيرها من الدول؛ ثمَّ ينبغي لها، ومهما ارتفع منسوب العولمة الاقتصادية، وازداد الاقتصاد العالمي تشابُكاً وتداخلاً، أنْ تؤسِّس، وأنْ تجتهد في التأسيس، لعلاقة "اعتماد متبادَل (متكافئ، أو يزداد تكافؤاً مع مرور الوقت)"؛ لكن ما نراه هو أنَّ القوى الغربية، وفي مقدَّمها الولايات المتحدة، تسعى وتُصارِع، في استمرار، من أجل تجريد بعض الدول (التي لها مصلحة استراتيجية في إلحاقها بها) من مصادِر وموارد قوَّتها الذاتية، ومن كل ما يُمَكِّنها من أنْ تلبِّي بنفسها حاجاتها الأّوَّلية؛ فمن طريق ذلك يصبح في مقدورها جَعْل هذه الدولة تَعْتَمِد (اعتماداً متزايداً) في مقوِّمات عيشها ووجودها عليها، أو على دولٍ أخرى غنية بمواردها الطبيعية، وتَنْعُم بفوائض نقدية هائلة؛ لكنَّها تَعْتَمِد في أمنها واستقرارها على تلك القوى.
حتى تنظيم كتنظيم "الدولة الإسلامية (داعش)" يَكْتَسب النفوذ (ويسيطر، ويُحْكِم سيطرته) في الطريقة نفسها؛ فهو ما أنْ يستولي على مدينة (في سورية أو العراق) حتى يَضَع يده على مَصَادِر العيش اليومي لسكانها، أيْ على كل ما من طريقه يُلَبُّون حاجاتهم الأَوَّلية (الغذاء والماء والطاقة والوقود..).
"الأمن (والأمان والاستقرار)" هو حاجة لكل مجتمع؛ فإذا فُقِدَ، أو إذا ما توفَّرت قوَّة ما على إفقاد المجتمع أمنه، تتقبَّل غالبية الناس، عندئذٍ، سلطة مَنْ يعيد الأمن إلى المجتمع، ولو كانت كارهة له مِنْ قَبْل؛ ولقد استطاعت الولايات المتحدة، مثلاً، أنْ تستعيد كثيراً من شعبيتها المفقودة في العراق عندما قادت الحرب على "داعش" الذي أفْزَع وأرعب العراقيين جميعاً.
وفي الأردن، استشعر الناس خطر انقطاع إمدادهم، وإمداد منشآتهم لتوليد الطاقة الكهربائية، بالغاز المصري؛ فتهيَّأ كثيرٌ منهم لتقبُّل أنْ يعتمد الأردن، في هذا المُقوِّم من مقوِّمات حياته، على الغاز الإسرائيلي (الذي سيُنْقَل إليه بأنبوب).
وذات مرَّة، رَفَضَ الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد أنْ تعتمد سورية، في مياه الشُّرْب، على أنبوب مائي تركي، مُمْتَد إقليمياً، قائلاً إنَّه قد يسمح بمروره بالأراضي السورية؛ لكنه لن يقبل أبداً أنْ يعتمد السوريون عليه في مياه الشُّرب.
جاء في المثل الشعبي العربي: "مَنْ لا يأكل من فأسه (أو مَنْ لقمته ليست من فأسه) لا يكون رأيه من رأسه"؛ و"لقمة العيش"، عربياً، هي الآن، وفي المقام الأوَّل، القمح، وسائر الحبوب، ومواد الغذاء الأساسية، والماء الصالح للشرب الآدمي، والكافي للريِّ الزراعي، والطاقة. من قبل، كان لدينا "الفأس"، فَنُنْتِج به "لقمة عيشنا"؛ أمَّا الآن فأدخلوا في رؤوسنا من "ثقافة الاستثمار" ما عاد بالنفع والفائدة على مصلحتهم في انتزاع "الفأس" من يدنا، وفي مسخ وتشويه حياتنا الاقتصادية؛ طائعون، أو مُكْرهون، أخذوا مِنَّا "الفأس"، ثمَّ حالوا بيننا وبين استعادته، فتحكَّموا في "لقمة عيشنا"؛ فحلَّ بنا ما حلَّ بكل مَنْ يتوهَّم أنَّ منتوجه الفكري والثقافي والروحي لا شأن له بـ "الفأس" و"لقمة العيش" المتأتية منه، أو أنَّ في مقدوره أن يحيا حياةً فكرية وثقافية وروحية مستقلة وهو يعيش في تبعية لغيره، تشمل مقوِّمات عيشه ووجوده.