من منا لا يتنهد بألم وحسرة عند مشاهدة المسلسلات السورية التي خرجت للنور قبل ان يعبث بأجوائها الدمار....حيث النوافير الرقراقة.. وأصص الفخار.. ومنقّل الكبّة.. وكلمة «يامو» التي تتردد بأرجاء الدار !
كنا في الماضي القريب..بل القريب جدا.. نتقلب بنعم كثيرة لم نقدّرها حينذاك. كالتنقل بالسيارة من الأردن باتجاه البلاد العربية الشقيقة المجاورة.. حتى ان البعض كان يجتهد بالوصول إلى اوروبا عبر تركيا..فكلما تلفتنا ذات اليمين وذات اليسار.. او الشمال والجنوب.. كنا نواجَه بأبواب تُفتَح ونوافذ تًشرّع..وطرق تُمهّد.. كنا نسير متى نريد وفي اي وقت نريد.. بين الصلاة في المسجد االاموي والتنزه والتسوّق الممتع المعقول الثمن.. وإن رغب بعض الزوار بالابتعاد قليلا اتجهوا الى لبنان..
أذكر في آخر زيارة لنا لدمشق..قبل ما يُسمى الربيع العربي.. سنحت لي الفرصة للتجول بمفردي في أسواق الشام القديمة.. فحظيت بمتعة الاستغراق تماما بالأجواء المحيطة ، والتوحّد مع عبق المكان والزمان والإنسان الضاربة جذورها بين سطور التاريخ وصفحات أعماقه !
وهكذا عبر الأجواء المشبعة بأريج البهارات المختَرَقَة بنسمات الهال وذبذبات فناجين القهوة وطقطقات إيقاعها الراقص ، يهلّ عليك كرم الدكاكين بالحارات القديمة.. يقدمون المكسّرات مجانا,,و»الملبّس على قضامة»....وبذور البطيخ المحمصة.. والفستق الحلبي.. كمْشة من هنا وكمشة من هناك..في حين تتلألأ العيون بالبشرى.. وترتسم الابتسامة الدائمة على الوجوه الشاميّة..
فتعلوا ضحكاتهم وترحيباتهم.. الصادقة.. وهي توجهني نحو الدرب الموصل لفندق قديم مشهور قصدته في عمق البلدة القديمة بدمشق لا نصله الا سيرا على الاقدام.. او في احسن حال بواسطة عربة صغيرة كتلك المخصصة للفنادق..كنت اسير وارتشف من هذا البازار الطبيعي الممتدة أسواقه بلا نهاية.. في تلك الزيارة وفي ذلك المشوار بالذات بالرغم من معطياته الساحرة.. انتابني شعور مبهَم..فكأنني القي النظرة الأخيرة عليه..
وحالما وضعت الرحال في الفندق الأثري المطلوب.. قرب المسبح القديم.. طلبت طلبيْن من النادل شاي بالنعنع الأخضر.. وفنجان قهوة معا..
ضحك النادل وقتها ناصحا بأن اتناول الشاي أولا.. ثم القهوة ثانيا..
فقلت له: بل الإثنين معا.. لا وقت لدي..
وفعلا نفذ الزمن الجميل بوقته الذي تسرّب من بين ايدينا خلسة ونحن في أوهامنا مستغرقون.. عصرْناه عصْرا... قطرة قطرة.. حتى تخلى عنا قسرا. لم نثّمّن ما كان بين ايدينا !
وها هي دمشق تنوح ونحن معها ننوح.. واختفت الضحكة عن الوجوه النضرة.. لتعلوها القترة.. في الأجواء الغبرة..حتى باتت النفوس معتمة مكدرة..
لطالما تجاهلنا حقيقة إمكانية تكامل البلاد العربية التي وهبتنا إياها الطبيعة.. لتحقيق الوحدة المعنوية والمادية.. وحدة تبدأ مثلا بمشروع سكة حديد مشتركة.. شبكة كهرباء.. وغيرها.. كلها ستقود إلى وحدة جمركية تسهّل التجارة البيْنية.. على درب الوحدة الاقتصادية..
ولكننا اجتهدنا بصورة عكسية.. فخططت العقول القريبة والبعيدة للمؤامرات.. وأبدعت الأيدي بتشييد المطبّات... فالتكامل مغضوب عليه.. والوحدة مرفوضة في قاموس التعامل العربي العربي.. وهكذا على نفسها جنت براقش.. ونتيجة لهذه الفلسفة المعكوسة..حصدنا مَرّ حصاد الجحيم العربي نتيجة قصر النظر وتخبّط الرؤية..لوجود رغبة خفية للدمار الذاتي عندنا فقبعنا بين نمطين من «التدمير الذاتي» التفكيري والسلوكي..كخشية بعضنا من النجاح والتميز فنلجأ للمماطلة والتسويف..
ناهيك عن رفضنا العمل الا في أجواء كاملة متكاملة..والكمال لله وحده.. فتتضخم البطالة بأرقامها ومشاكلها..وهكذا تتقلب الغالبية في البلاد العربية بمعطيات ونتائج «التدمير الذاتي» ,,وحتى من ينفد من هذا «التدمير الذاتي» ويتابع بلوغه لأهدافه بغض النظر عن المعيقات.. تجد من يدخل على خط نجاحه ويدمر إنجازاته.. تحقيقا لمقولة الغيرة: مفيش حد أحسن من حد !
وهكذا تكتمل حلقة التدمير..
والان كلما تلفتنا ذات اليمين وذات اليسار نسمع أنينا..وزفرات.. وتخوفات البلاد العربية المكلومة بدمار جراحها الذي ارجعنا الى خمسين عاما للوراء..
وحتى لو بدانا من جديد..فلن يعود كل شيء الى سابق عهده فسحْر المكان وشغَف الإنسان قد نال منهما الزمان.. كلا..بل إنه الإنسان.. الذي يعبث بكل شيء حتى لم ولم يعد للعبق مكان..
وصدقت رؤية احمد شوقي مخاطبا دمشق :
وَبي مِمّا رَمَتكِ بِهِ اللَيالي» جِراحاتٌ لَها في القَلبِ عُمقُ
ترى..َهل حسدنا الاخرون على هذا العبق الخفي الذي تعبق به دمشقنا وقدسنا وبيروتنا وبغدادنا وقاهرتنا وصنعاؤنا.. عبق لا ينبثق الا عن محصلة عناصر استثنائية تتواجد فقط في البلاد العربية فتآمروا ضدنا ؟
أم نحن الذين تآمرنا ضد انفسنا ؟