وحدها تركيا، هي التي تثير المزيد من الشكوك المُسربلة بالغموض في شأن موقفها الملتبس إزاء ما يحدث في المنطقة من تطورات ومفاجآت، واحتمالات مفتوحة لرسم خرائط جديدة وانهيار معادلات قديمة وقيام أخرى وفق تصنيفات واصطفافات قد تأخذ أبعاداً أكثر خطورة، إذا ما آلت إلى إطاحة أنظمة وشطب دول وكيانات وإحياء أخرى قد لا تتوفر لها عوامل البقاء، لكنها ستحظى بالحماية والرعاية الإقليمية أو الدولية، على نحو يصعب القول إن منطقتنا ستحظى بأي نوع من الاستقرار والأمن، وبالتأكيد لن تكون الديمقراطية أو العدالة الاجتماعية أو الحريات العامة والتوزيع العادل للثروة وفصل الدين عن الدولة، جزءاً من تجلياتها رغم رطانة الغرب الامبريالي وبلاغة خطاب عرب اليوم الإعلامي على الأقل.
لماذا أنقرة؟
اليوم.. سيقرّر البرلمان التركي الموافقة على نص «المذكرة» التي كان أحمد داود أوغلو، رئيس الوزراء أرسلها إليه والسماح للحكومة التركية «..ارسال القوات المسلحة التركية إلى بلاد أجنبية للقيام بعمليات عسكرية وراء الحدود إذا اقتضت الضرورة ذلك، وفق الشكل الذي تحدّده وتقدّره الحكومة، من أجل المساعدة في تنفيذ سياسة ديناميكية وسريعة للحيلولة دون التعرض لأمور قد يكون من الصعب تلافيها مستقبلاً، في ضوء تطور الأحداث» ثم تستطرد «..وقرّرت الحكومة أيضاً.. اتخاذ كافة التدابير من أجل إزالة التهديدات والمخاطر من خلال السماح بتواجد قوات مسلحة (أجنبية) داخل الأراضي التركية واستخدام تلك القوات، وفق الأسس التي ستُعلن عنها الحكومة في البلاد».
نص طويل وعمومي ومرتبك، على نحو مريب يخلط الحابل بالنابل، ويسعى لتسويغ خطوة غير مسبوقة بالتدخل في دول الجوار العربي والحجة دائماً الدفاع عن الأمن والمصالح التركية، دون أن يحدّد ماهية هذه المصالح؟ ومَنْ الذي يتعرض لها؟ ومدى اسهام الحكومة التركية ذاتها في تعريض مصالحها للخطر، بعد أن زجّت بنفسها في عملية دعم وتجييش وتمويل وتوفير الملاذات الآمنة لجماعات الإرهاب (وخصوصاً داعش) والقتلة والجوالين والمرتزقة تدفعها ايديولوجيتها (العثمانية الجديدة) للقفز على حقائق التاريخ والجغرافيا، وادارة الظهر للقانون الدولي وعدم التزام استحقاقات الجوار والمعاهدات والاتفاقات التي كانت عقدتها مع الحكومة السورية وتلك العراقية.
لم تقل مذكرة حكومة اوغلو، شيئاً ولم تُشر بالاسم حتى لاؤلئك الذين سيعرضونها «لأمور قد يكون من الصعب تلاقيها مستقبلاً في ضوء تطور الاحداث» اي احداث؟ وكيف سيمكن للتدخل العسكري التركي في العراق وسوريا ان يساعد في «تنفيذ سياسة ديناميكية وسريعة»؟
ثمة «أشياء» باتت مكشوفة، ولم يعد سراً أن انقرة التي تلكأت في الاستجابة للطلب الاميركي الانضمام الى التحالف الدولي لتدمير داعش بحجة وجود «49» من مواطنيها ودبلوماسييها الذين احتجزتهم داعش عند اجتياحها للموصل وسيطرتها على القنصلية التركية، وضعت «شروطا» وطرحت مطالب على البيت الابيض، في حال ما إذا استجابت لها واشنطن فإن انقرة ستشارك في هذا التحالف وبخاصة في ان يستهدف قصف الحلفاء اسقاط النظام السوري في الوقت ذاته الذي يضرب فيه داعش وتشكيلاته العسكرية الميدانية ومراكز السيطرة والقيادة (...) ومخازن الذخيرة وغيرها من الاهداف. (دون إهمال الهدف الاعلى وهو كسر شوكة كرد سوريا وعدم السماح لهم بتكوين جيب او قيام حكم ذاتي في كردستان الغربية «السورية»).
انقرة.. وخصوصاً الثنائي اردوغان–داود اوغلو، اللذين ارتقيا الى اعلى منصبين في البلاد، لم تستفد من عبرة ودروس الازمة السورية، ويبدو ان اوهامها بامكانية تصفية حساباتها مع دمشق، لم تغادر مخيلة هذا الثنائي الذي يسعى بدأب لاحياء الامجاد العثمانية البائدة والتي هي في بلاد العرب، لا تعدو كونها مشانق وتخلفاً واستعلاء عنصرياً يلبس لبوس الدين ويتغطى بعمامة الخلافة، لكنه لم يكن سوى شكل من اشكال الاستعمار القذرة والشريرة التي عرفها العرب طوال قرنين من الزمان.
غموض الموقف التركي مما يحدث على تخوم بلدة عين العرب (كوباني) على الحدود التركية السورية، يزيد من المخاوف بان سعي انقرة الى اقامة منطقة عازلة، انما يشكل بداية تحالف–ولو غير مُعلن كما كانت حاله حتى الان–بين انقرة والموصل (باعتبارها عاصمة تنظيم الدولة) وإلاّ كيف يمكن تفسير التقدم المضطرد الذي تحرزه قوات تنظيم الدولة واقترابها من اقتحام مدينة عين العرب فيما تستقر «40» دبابة تركية على الجبال المطلة عليها، وفيما يواصل طيران الحلفاء دك معاقل التنظيم الذي لا يكترث لضربات كهذه؟ ورغم ان داعش يحاصر ضريح سليمان شاه جد عثمان الاول مؤسس الدولة العثمانية الذي اعتبرت انقرة (ذات يوم) ان المسّ به سيكون مبرراً للتدخل العسكري التركي في سوريا.
تغيير قواعد اللعبة التي فرضها قرار مجلس الامن رقم «2170» يدفع للاعتقاد بان السيناريو الليبي قد يكون في طريقه الى التكرار، لكن علاقات دمشق بكل من طهران وموسكو وبيجين وراهن الازمة الاوكرانية، سيُشكلان عقبة امام طموحات وأهداف الذين يريدون وعلى رأسهم تركيا اردوغان، رسم خرائط جديدة للمنطقة ومن بوابة الحرب على الارهاب الداعشي.