الغائب الوحيد عما بقي يجري في العراق منذ عام 2003 ،وحقيقة عمَّا يجري الآن في العديد من الدول العربية، هو العرب والعروبة وذلك إلى حدِّ أنه بالإمكان القول أن «الشعوبية» التي ظهرت في ذروة الخلافة العباسية وبقيت طوال كل الحقب الماضية منذ ذلك الحين تطل برأسها وتتراجع وتختفي إلى أن حلّ هذا الزمن الرديء فإنتصرت هذا الإنتصار الذي من المفترض أن يجعلنا نضع أكفنا فوق عيوننا خجلاً من الجدود الذين وصلت خيولهم من بلاط الشهداء إلى صور الصين العظيم وخجلاً من أبنائنا وأحفادنا وأجيالنا المقبلة.
لقد خسرنا مرحلة المد القومي (العربي) في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي لأن الأحزاب التي تسلمت الأمانة لم تكن بمستوى تحديات تلك المرحلة ولأنها كانت أعجز من أن تُحْدثَ التحولات التي كان ولا يزال ينتظرها الشعب العربي ولأن القادة «الملهمين» أشبعوا شعوبهم خطابات نارية ومرجلات فارغة واستعراضات كاذبة ولأنهم أشرعوا أبواب السجون وأغلقوا عقولهـم وقلوبهم أمام استحقاقات العصر ولأنهم تصرفوا كـ»نواطير مقاثي» ولم يتصرفوا كزعماء أمة فكانت كل هذه الإنتكاسات المتلاحقة وأخطرها إنتكاسة حزيران (يونيو) عام 1967.
بدأ حزب البعث العربي الإشتراكي صاحب :»أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» و»وحدة حرية إشتراكية»» حزباً واحداً له فروع من المحيط إلى الخليج وإنتهى ،بعد أن سقط في إمتحان السلطة والحكم، إلى أكْل نفسه بنفسه وانتهى أنظمة متصارعة ومتذابحة وزنازين تطفح حتى بقادته التاريخيين وكانت الطامة الكبرى عندما حكم «نظامه» في دمشق على مؤسسِه الأستاذ ميشيل عفلق بـ»الإعدام» بتهمة الخيانة العظمى وعندما أطلق المسدس الذي جاء من عاصمة الأمويين إلى باريس مزوداً بكاتم صوت رصاصة على صدر زميل مؤسسه الأول أي صلاح البيطار فكانت نهاية هذا الحزب ونهاية قيادته.
وحقيقة أنَّ تجربة حركة القوميين العرب لم تكن أقضل كثيراً من تجربة حزب البعث فهي بدورها ما لبثت أنْ إنهارت وتشظت وتحولت بعد كارثة حزيران أو تحول فرعها الفلسطيني إلى الجبهة الشعبية التي أنجبت الجبهة الديموقراطية وجبهة أحمد جبريل ،الجبهة الشعبية-القيادة العامة، والجبهة الثورية.. وباقي ما تبقى من «الجبهات» التي لم يعد يتذكرها حتى أصحابها.. وهنا فإنه لابد من الإشارة إلى تلك النهاية المأساوية لـ»القوميين» في اليمن الجنوبي الذين تحولوا إلى ماركسيين ثم تحولوا بعد سنوات قليلة من حكم اليمن الجنوبي إلى قبائل ماركسية.. لم يبقَ منها إلاَّ الرفيقين علي سالم البيض ،الذي انتهى لاجئاً سياسياً في إمارة حسن نصر الله في ضاحة بيروت الجنوبية، وعلي ناصر محمد الذي بعد مذبحة عدن الشهيرة ضاقت عليه الأرض بما رحبت ولم يجد ما يحتمي به إلاَّ النظام «الثوري الممانع والمقاوم» في سوريا التي أوصلها هذا النظام إلى ما هي عليه الآن من نعيم ديموقراطي وبحبوحة عيش وإستقرار!!.
كلهم فشلوا.. فالرئيس عبد الناصر طارد وحدة عربية لم يحسن التعامل معها والمؤكد أنه لم يكن يفهمها إلا على طريقة مصطفى كمال أتاتورك وطريقة أدولف هيتلر وكانت النهاية مأساوية أيضاً.. وهكذا إلى أن غرقت «العروبة» في فوضى اليسار السطحي الكاذب وفي ممارسات الذين حكموا العراق وسوريا بإسم «البعث» فذبحوا البعث من الوريد إلى الوريد فكانت النهاية هي هذه التي نراها الآن.. سيطرة إيرانية في العراق وفي القطر العربي السوري وطائفية تحمل راية شعوبية تكتم أنفاس العروبيين في هذا القطر وذاك..وهنا وهناك!!
بعد غروب شمس القومية العربية كأنظمة وكأحزاب وأيضاً كمعتقد وفكرة وبعد تلاشي ظاهرة اليسار الذي كان مجرد «موضةٍ» عابرة كـ»موضة» بنطلونات الشارليستون جاء دور الحركة الإسلامية التي أثبتت أنها أكثر كل هذه التجارب خيبة وفشلاً.. وهكذا فإننا الآن لا نرى إلاَّ هذه التنظيمات الإرهابية التي أعادتنا ليس إلى ما قبل العصور الوسطى وفقط بل إلى ما قبل فجر التاريخ وكذلك فإننا لا نرى الآن إلاَّ هذا المد الإيراني الشعوبي الكاسح.. وإلا هذه الخيبات التي تدمي القلوب والتي عنوانها هذا الذي يجري في بلاد الرفدين وفي القطر العربي السوري وفي اليمن (السعيد) وفي ليبيا.. وبالطبع في الصومال والذي قد يجري في دولٍ أخرى تنام فوق ألغامٍ ربما تنفجر في أي لحظة.. وهكذا فإنه لا أمل إلاَّ بالعودة للعروبة المتماشية مع إستحقاقات ومتطلبات حركة التاريخ وتطورات العصر وليس عروبة الشعارات الصاخبة والأفعال الهزيلة وعروبة الزنازين والسجون والإعدامات الجماعية.