من الواضح أن إسرائيل باتت تفضل، ومنذ سنوات طويلة، أي منذ أن انسحبت من قطاع غزة عام 2005، التصرف من طرف واحد، ورغم اللغط الذي شهدته إسرائيل أيام حكومة أيهود أولمرت التي ورثت حكومة أريئيل شارون، بعد دخوله في غيبوبته المعروفة، والذي دار حول إمكانية أن تتصرف إسرائيل في الضفة الغربية، كما فعلت مع غزة، أي أن تنسحب من جانب واحد، بعد أن رفضت السلطة وهي في أضعف حالاتها، بعد السور الواقي، وبعد انتخابات عام 2006، وما تلاه من انقسام عام 2007، كل العروض الإسرائيلية الخاصة بدولة بحدود مؤقتة، على مساحة 40 _ 60 % من الضفة الغربية، رغم كل هذا إلا أن إسرائيل لم تقم " بإلغاء " قرار شارون، الخاص بالانسحاب الأحادي من غزة، وهي ما زالت تتعامل مع هذا الخط السياسي باعتباره بات خيارا مفضلا، تسعى إلى تعميمه في كل المسائل.
لذا فإن إسرائيل تتمنى من أعماقها أن تغمض عينا وتفتح أُخرى، فتجد الرئيس محمود عباس قد اختفى عن الحياة السياسية، لأنه بات يزعجها جدا، وهو يطالبها ليل نهار بالانسحاب وفق الشرعية الدولية، أو عبر تفاوض يكبلها، يجري وفق محددات معينة، منها أن يجري بالتوازي مع وقف الاستيطان، ووفق سقف زمني، وان يبدأ بترسيم الحدود، وما إلى ذلك.
تريد إسرائيل أن تدير شأنها مع الجانب الفلسطيني، وحدها، دون أن يكون للجانب الفلسطيني الآخر أي رأي أو موقف، لذا فهي اتخذت قرار الحرب على غزة، وحدها بالطبع، لكن الأهم كان قرار وقف تلك الحرب، حيث نجحت إلى حدود بعيدة، من خلال جدل وقف النار، وعبر أكثر من هدنة إنسانية، وعبر تكتيك وقف النار وفق مرحلتين: مؤقتة ودائمة، أن توقف الحرب عند الحدود التي اعتقدت أنها حققت فيها أهدافها، دون أن تلتزم بشيء محدد.
وحتى تضع حدا لجدل يمكن أن يقودها إلى مفاوضات، ليس مهما إن كانت حول إنهاء الاحتلال أو حول إنهاء الحصار عن غزة، فإنها بادرت إلى تقديم "تسهيلات" مختلفة ومتعددة، لاحتواء الضغط الفلسطيني، الناجم عن نتائج الحرب على غزة، وعن انتهاء تسعة أشهر من التفاوض دون تحقيق أي اختراق يذكر.
التسهيلات الإسرائيلية تمت دون اتفاق سياسي لا مع الوفد الرئاسي في القاهرة ولا مع قيادة السلطة، بل مع المستوى التنفيذي، وشملت منح تصاريح لمن هم فوق 60 سنة لزيارة القدس، كذلك منح التصاريح لطلاب الجامعات من غزة للضفة وللخارج، كذلك زيادة عدد الشاحنات التي تدخل البضائع لغزة، ومن ثم عودة طواقم المعابر، وفضلت إسرائيل أن تقدم هذه التسهيلات _ حتى لا تكون ملزمة باستمرار العمل بها _ خارج إطار التفاوض على وقف النار، الذي من المفترض أن يبدأ بعد نحو ثلاثة أسابيع في القاهرة، لكن ولأن إسرائيل لا تحبذ التفاوض فأنها لن تكون مهتمة كثيرا، لا بعقد ذلك الحوار، ولا بإنجاحه في حال التأم شمل المتحاورين !
وحتى تغلق إسرائيل نهائيا أبواب التفاوض السياسي، بدأت حملتها ضد شخص الرئيس أبو مازن بمناسبة خطابه في الأمم المتحدة، وبدأ نيتنياهو في طرق الأبواب العربية لدعوة العرب لتجاوز الفلسطينيين والجلوس مع الإسرائيليين للتوصل إلى اتفاقات سلام، وربما لما هو ابعد من ذلك، بعقد تحالفات إقليمية ضد أعداء "وهميين" خلقتهم الإدارة الأميركية وإسرائيل.
ربما هذا يشير إلى أصابع إسرائيل الخفية التي لها مصلحة في خلق صراعات داخلية إقليمية، تفتح الشقوق في جدران صدها من قبل المنطقة العربية / الإسلامية، فهي ربما تريد القول للدول العربية السنية انه يمكنها أن تساعدها في مواجهة جماعات التطرف السني ( داعش والنصرة، وغيرها في ليبيا ومصر وتونس ) كذلك في مواجهة الخطر الشيعي الذي دخل عواصم عربية سنية، كانت على التوالي : بغداد، دمشق، بيروت وصنعاء.
آخر ما تريد إسرائيل أن تعالجه بعيدا عن الاتفاقيات الدولية، وحتى الاتفاق مع الجانب الفلسطيني، هو إعمار غزة، فقد اقترح المحلل الإسرائيلي الشهير رون بن يشاي، قبل أسبوع، خطة مارشال مصغرة في غزة، أهم ما ورد في مرحلتها الأولى اقتراح عودة آلاف العمال الغزيين للعمل في إسرائيل، ولا يقترب العرض الإسرائيلي حتى اللحظة، من أن يكون الإشراف على إعمار غزة من طبيعة سياسية، مثل دخول قوات حماية دولية، ولكن فقط، إشراف أممي على تسلح حماس، ثم تنمية القطاع بما يتوافق مع ما يقوله نتنياهو من أن العملية السياسية يجب أن تأخذ بعين الاعتبار المتغيرات الإقليمية .
وكأن إسرائيل باتت تفكر في إعادة ترتيب الاحتلال ليصبح احتلالا مقبولا فلسطينيا وإقليميا ودوليا، بل ربما مطلوبا في مواجهة التطرف، ومن اجل استقرار المنطقة. المهم هو أن يشرع الفلسطينيون في مواجهة إدارة ظهر إسرائيل لكل بحث في إنهاء الاحتلال بإعادة ترتيب أوراقهم بما يمكنهم من قلب الطاولة في وجه إسرائيل، وذلك من خلال تعميق المصالحة والوحدة الداخلية، ودفع مشاريع إعادة إعمار غزة وتنميتها بحيث تشكل رافعة سياسية / اقتصادية للمشروع الوطني، من خلال عائدات حقول الغاز وتصدير الورود والتوت الأرضي، كذلك التوافق على مقاومة شعبية سلمية _ هي محط إجماع، وهي أفضل من مقاومة مسلحة ليست محط إجماع داخلي _ تفرض على إسرائيل، مع مقارعة دولية لها، في ملفي إنهاء الاحتلال وجرائم الحرب، التسليم في نهاية المطاف بالخروج من أراضي دولة فلسطين.