في تقديري فإنَّ إقحام الفتوى الدينية في الموضوعات ذات الطابع العلمي والتاريخي الجدلي والمتحرك بطبيعته، ليس من الرُشد.
من ذلك الجدل الذي دخلت عليه دار الإفتاء المصرية حول لقب «أم الدنيا» لمصر، وهل له أصل ديني؟
كتبت دار الإفتاء المصرية عبر صفحتها الرسمية على موقع «فيسبوك» إنَّ «مصر سُميت (أم الدنيا)، أو (أم البلاد وغوث العباد)؛ فبهذا سماها نبي الله نوحٌ عليه السلام». واستدلت الدار بكتب التاريخ في منشورها الذي حمل عنوان «مدى صحة مقولة: أرض مصر أرض مباركة وهي أم البلاد»، لا سيما كتاب «فتوح مصر والمغرب» لابن عبد الحكم الذي أورد فيه رواية تاريخية دالة في هذا السياق.
مع توقيري الكبير لدار الإفتاء المصرية ومقامها المحفوظ، فإن ذلك ليس دورها، فالدين يُفترض أنه مصدر متعالٍ على الجدليات الدنيوية، وتدخل من يوصفون بأنهم «يوقعون» عن رب العالمين، كما وصف العالم الدمشقي القديم ابن القيّم، أصحاب الفتوى، هو تدخل لا يفيد القضايا الجدلية ولا يصون مقام الدين ومن يمثل موقفه.
وعلى ذكر مصر، فربما تابع كثير منكم الجدل المُثار حول بعض المثقفين المصريين، الذين أسسوا أو ساهموا في نشاط مركز «تكوين» الفكري، واللغط حول أفكار المركز وسلوك بعض أعضائه.
لن أدخل في تفاصيل الأمر، غير أن رأيي القديم، هو أن تدخل العامة في قضايا فكرية وتاريخية أمر خطير، وعواقبه ضارّة.
يحدثنا التاريخ كثيراً عن فِتن العوامّ في بغداد وخراسان والشام ومصر وغيرها، وتوظيف قوتهم العمياء من طرف سياسي أو ثائر ما، لردع خصومه، كما حصل مع علماء مثل: ابن جرير وأبي الوفاء بن عقيل وابن رشد، وغيرهم.
لا يعني ذلك إعجابي المطلق «بكل» أفكار جماعة المثقفين من أصحاب «تكوين» وعدم اختلافنا معهم، لكن هذا بحثٌ آخرُ، ولا يعني أيضاً أن بعض النخب العربية ليس مسؤولاً أيضاً عن بحثه عن الإثارة والجدل، أو بلغة اليوم «التريند» لمجرد «التريند».
بكلمة أخرى، لكل مقامٍ مقال، كما يُقال، وما يصلح للحديث مع اثنين أو ثلاثة لا يصلح مع عشرة أو عشرين، وقطعاً لا يصلح مع مئات الآلاف أو عشرات الملايين.
هذا يعيدنا لما يُراد اليوم منذ تفجر ثورة السوشيال ميديا، أن لا يُقال، وهو أنَّ العامة لا يصلح أن يُقحموا في قضايا ليست لهم، مثل البحث في دقائق التاريخ وتفاصيل الخلافات اللاهوتية، هذا لا ينفعهم ولا ينفع العلم، بل يضرهم ويضر العلم والبحث العلمي.
قد يقال إنَّ هذه لغة متعالية متعجرفة، لكن بعيداً عن هذه التوصيفات «الأخلاقوية» فإنَّ الواقع يقول ذلك... قديماً وحديثاً.
لو كان إسحاق نيوتن، مثلاً، مُباحاً لتسلط العوام عليه، لما تقدم علم الفيزياء بكل فروعه، والرياضيات، كل هذا التقدم الذي ترتب عليه قفزات في الحضارة الإنسانية كلها.
نعم... لكل مقام مقال.