أي نظرة مجملة وتحليل متأن للفوضى والخراب السياسي والسيادي الذي يحدث في المنطقة العربية تقود الى ذات النتيجة: المشروع الإيراني يزداد توسعاً ورسوخاً، والمشروع الإسرائيلي يتعمق احتلالا واستيطاناً، وذلك كله على حساب العرب دولا، وشعوباً، وقضايا، وسيادات. اليوم تقود الولايات المتحدة حربا عريضة وقائمة على تحالف عالمي ربما كان الأوسع والأكبر منذ الحرب العالمية الثانية ضد عدو تافه اسمه داعش. وتنخرط في هذه الحرب معظم الدول العربية بعضها بحماس، وبعضها بتردد، وبعضها الآخر شبه مرغم اذ لا خيار آخر. المستفيد الأول والأكبر من هذه الحرب هو إيران، والتي يبدو وكأن العالم كله وبقيادة أوباما نفسه ينفذ لها أجندتها الإقليمية ويطهر لها مساحات النفوذ ويهيئ لها الأرض كي تتمدد بسهولة. كل انتصار على داعش تحققه أميركا وحلفها سوف يفتح مدى جديدا للنفوذ الإيراني الذي يمتد هلاله فوق العراق وسورية ولبنان، ويبتلعها كلها ويتوقف عند الحدود الإسرائيلية ويحترمها!
داعش، واستباقاً لأي سوء فهم او مظنة بأن هذه السطور تدافع عنه بأي شكل من الأشكال، جماعة ظلامية وإرهابية وتستحق ان تُدار ضدها كل الحروب. ما قامت وتقوم به من جرائم لم يدمر سوى العرب والمسلمين وبلدانهم، ولم يجر عليهم سوى المصائب والويلات. انه الجماعة التي يلتقي فيها الفكر الماضوي المنغلق، مع إخفاقات الحاضر واستبداداته وإفرازاته، وتسلط التفسيرات المتطرفة للنص والسياق التاريخي والسياسي معاً. داعش هي عمليا وتاريخيا إفراز تحالف الاستبداد الداخلي في البلدان العربية والإسلامية مع الاستغلال القاتل للنص الديني سواء من قبل الحكومات او التنظيمات، وذلك كله تحت مظلة التدخلات الخارجية التي لم تتوقف في المنطقة وعمقت من تطرف جماعاتها المتطرفة ودفعت بها إلى مربعات قصوى من التعصب، معطوفاً على ذلك بهارات قادمة من الخارج هي النواتج الشائهة لفشل عملية إدماج الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المسلمين في الغرب.
وليس هناك من لكن هنا بحق هذه الجماعة وتفاهاتها. اللاكن هي بحق التدخل الأميركي والغربي الذي يفشل في التوقيت وفي التدخل ضد الطرف المناسب في الوقت المناسب. هذا التدخل بل واقل منه بكثير كان سيحسم كل المعركة التي دارت في سورية منذ اكثر من ثلاث سنوات ونصف، وكان سيوفر دماء وحياة مئات الألوف من الأبرياء، وكان سيقطع الطريق على بروز داعش وأخواتها وكل ما هو قريب منها. كانت ثورة السوريين السلمية والراقية والبطولية تتصلب في التمسك بسلميتها في حين تعاظم بطش النظام الأسدي بها لدفعها نحو الهاوية. وقفت الولايات المتحدة ودول عربية كثيرة تراقب تردي تلك الثورة، وفتك النظام بها، وتدخل إيران الفج والوقح لمناصرة النظام وقمع الثورة. واستمرت القصة المعروفة تفاصيلها الى ان وصلت درجة بروز الجماعات المسلحة التي عسكرت الثورة وفتحت بوابات سورية لكل من هب ودب من متطرفي العالم. المسؤول الأول عن تدهور تلك الثورة وعدم نجاحها هو الدول العربية المحيطة والغرب بمجمله، والطرفان هما المسؤولان عن نشوء داعش واستقوائها وتوسع سيطرتها.
الأسئلة التي تزدحم بها عقول الملايين من عرب المنطقة لا تجد أجوبة عليها، والخشية كلها أنها ستواصل الضغط على عقول أصحابها حتى تصل الى درجة الانفجار. وعلى رأس تلك الأسئلة: لماذا اعرض أوباما وأميركا ومن وراءهم الغرب كله عن حرب إرهاب النظام الأسدي وإيقافه عند حده رغم كل المجازر التي قام بها، وترك الشعب السوري ضحية لآلة القتل اليومية، في ما نرى أوباما نفسه وأميركته وغربه يتملكهم النشاط والقوة والإصرار على خوض حرب ضد داعش وفقط، ويُستثنى من الحرب إرهاب النظام الأسدي وكل الجماعات القادمة من إيران ولبنان والتي تؤيده في إجرامه ضد الشعب السوري؟ لماذا لم يتحرك العالم وعلى رأسه الولايات المتحدة عندما قصف النظام الأسدي شعبه بالأسلحة الكيماوية التي كان يزعم بأنه يدخرها لحربه الاستراتيجية مع إسرائيل، وهي الحرب التي لم تحدث ولن تحدث ابداً؟
الأجوبة الأسرع نفاذا الى عقل كل مراقب تتمحور حول مصلحة إسرائيل وامنها واستقرارها بكون ذلك هو المحرك الأهم في أي سياسة أميركية وغربية في المنطقة العربية. عوض ضرب النظام الذي ارتكب جريمة حرب بحق الإنسانية بحسب كل الشرائع الدولية، استغلت الولايات المتحدة وإسرائيل خوف النظام من ردة الفعل الدولية وفرضوا عليه نزع سلاحه الكيماوي، وهو الأمر الذي خضع له النظام "الممانع" بكل سرعة واستجابة، مقابل ان يبقى في كرسي الحكم. الى جانب إسرائيل تقف إيران اليوم في نفس الدرجة لجهة الاستفادة والحصاد الذي تجنيه من وراء السياسة الأميركية التي تتحالف فيها العنجهية والعنصرية العميقة ضد العرب والفلسطينيين والدعم الأعمى لإسرائيل مع الغباء وقصر النظر الذي نشهده في كل حلقة من حلقات الحروب العمياء التي تشنها واشنطن في المنطقة.
في كل دورة من هذه الدورات تقدم هدايا إضافية لإيران. اذا اقتربنا اكثر لنا ان نقول ان تطور الحالة الداعشية في المنطقة العربية كان وليد حرب غزو العراق سنة 2003، والتي أفرزت نواتج وعمليات سياسية واستراتيجية لا تسير في ذات الاتجاه. فمن ناحية اولى أسقطت الحرب صدام حسين واستبداده، لكن جاءت بما هو أسوأ منه: استبداد جديد ومن نوع طائفي هذه المرة. ومن ناحية جيو استراتيجية قدمت الولايات المتحدة التي قادت الحرب مفاجأة ذهبية وخارقة للتوقع إذ قدمت العراق كبلد وحكومة ومنطقة نفوذ هدية على طبق من فضة لإيران. من تلك اللحظة الزمنية الحالكة في التاريخ العربي الحديث والمنطقة تسير من انحدار لآخر، ومن حلقة تجزئة وتفتت الى أُخرى، وفوق ذلك كله من جولة توسيع لنفوذ وسيطرة إيران على الجوار الإقليمي الى أُخرى. اذا صدقت بعض التقارير الصحافية التي نسبت الى احد نواب العاصمة الإيرانية خطبة عصماء قال فيها ان إيران تسيطر الآن على اربع عواصم عربية: بغداد، ودمشق، وسورية، وصنعاء، فإن ما يحدث الآن من حرب لن ينتج الى تكريسا للتوسع الإيراني الذي جوهره المشروع الفارسي الذي لا علاقة له بالدين ولا حتى بالشيعة والتشيع.