بعد فترة قصيرة من انفتاح أبواب الجحيم في غزة، توقفت عن متابعة مشاهد الحرب. ثم توقفت عن مشاهدة التلفزيون على أنواعه. ثم شعرت أنني لن أعود قادراً حتى على المتابعة الصحافية.
كانت مشاهد الجحيم الرهيب متنوعة وكثيرة. لكن لسبب عبثي من الأسباب التي تلازم المرء في مثل هذه الحالات من اليأس والحزن والخزي، رافقني من بين الصور، كل لحظة، صورة واحدة رفضت أن تزيح. ليست صور الأطفال في الأكفان البلاستيكية الزرقاء. ليست صور المنازل التي تحوّلت إلى بحار من الركام. ليست صورة الطفل الذي اخترق طابور الطعام راكضاً ليغرف قليلاً من المرق ويعود، راكضاً، إلى أمه.
كان هناك مشهد واحد يتكرر أمامي دون سواه، مثل العلل النفسية: صور موجودات البيوت التي تظهر مبعثرة على أراضيها بعد كل غارة أو قصف. أو صورها منقولة على ظهر سيارة هاربة من المكان الذي لجأت إليه أمس. صور الحياة في غزة من خلال نوعية المقاعد والفرش والصحون والمساند والوسائد المصنوعة من فقر وعوز، ولا شيء. ولا لعب أطفال بين البقايا المبعثرة، ولا حصائر ولا مطابخ ولا علامة من علامات حياة الطبقات الوسطى أو الفقيرة.
كيف كان يعيش أهل غزة قبل موتهم؟ ما هي الأدلّة على علاقتهم بالحياة، عدا مباني «الأونروا»؟ وهل سُويت بالأرض أيضاً مؤسسة ذلك الملهم الكبير، عبد المحسن القطان، الذي يعتقد أن طريق العودة تبدأ من غزة، وليس بالضرورة من القدس.
ظل مشهد البيوت الأفقر من مخيمات، يلاحقني. ثم أزاحه ليلاً مشهد الأطفال. الأحياء، لا الموتى. ومشاهد الأطفال الذين يبحثون عن طابور مساعدة لأمهاتهم. ثم مشاهد المرضى على كراسي متحركة ولا سقف إلا السماء، ولا أرض على هذه الأرض. كنت أعتقد أن هذا المشهد هو «غورنيكا» فلسطين، كما كانت «غورنيكا» بيكاسو للحرب الإسبانية ضد الفاشيست. لكن لا. لن يترك لها السفاح هذا المجد. جاء المشهد من النصيرات ليحتل الصورة الأولى. هذه المرة الموجودات الفقيرة مبعثرة على أرض المنازل بين الجثث. جثث لم تعثر على أكفانها بعد.
أعدم الوالي التركي على لبنان، جمال باشا، 27 مناضلاً في وسط بيروت، وسُمي بعدها جمال باشا السفاح. ماذا سيصبح لقب هذا التمساح بعد مجزرة النصيرات؟