لو كنت في موقع يمكنني من الهمس في أذن الرئيس الفلسطيني محمود عباس لقلت له: حسناً نطقت بما انتظرناه منك طويلاً، ومن على منبر الأمم المتحدة ... صحيح أنك لم تقل كل ما نود سماعه، بيد أن ما نطقت به كان كافياً لبث شحنة تفاؤل في إمكانية تغيير المسار العبثي الذي سلكناه طوال سنوات طوال... تأخرت بعض الشيء، لم تقل كل شيء، لكنها بداية مشجعة.
على أنني في الحقيقة، أود لفت نظرك إلى ما هو أهم مما قلته وما لم تقله، من على منبر المنتظم الدولي الأرفع ... الدولة الفلسطينية لن ترى النور في عهدك ... لقد وعدت بها، والأرجح أن الزمن لن يسعفك للوفاء بعهدك ... فنحن بشر في نهاية المطاف، لنا فترة حياة كسائر مخلوقات الله، وأنت على مشارف الثمانين من عمرك المديد ... الدولة لن تقوم، لا في سنة ولا في ثلاث سنوات، كما تأمل وتتمنى وتتوقع.
لقد أطلقت السهم الأخير في جعبتك ... مشروعك لإخراج الدولة إلى دائرة النور، ما زال يصطدم بالعقبات التي حالت دون قيامها في عهد سلفك الراحل ياسر عرفات ... إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة، لن يدعانك تستمع برؤية الحلم وقد تحوّل إلى حقيقة راسخة رسوخ “جيرزيم وعيبال”، أقله في مدى السنوات القادمة ... ليس ثمة قوة ضغط كافية لإرغام الحليفتين الاستراتيجيتين على الرضوخ لهذا المطلب العادل، الذي تتناسخ الاعترافات به، وتتوالد الاستعدادات للترحيب بمقدمه، من عواصم عالمية محترمة.
لن أنصحك بالعودة عن طريق الحق هذا، لكونه موحشاً و وعراً ... لا طريق معبد أو مفروش بالورود للشعوب المتشوقة لحريتها واستقلالها ... طريقك للدولة مديد ومرير، كل طفل فلسطيني أو عربي، يدرك هذه الحقيقة، وأنت تدركها بلا شك ... خطابك لم يخلو من “الوهم”، البعض أسماه “قفاز تحدٍ” ألقيته في وجه الأصدقاء والأعداء على حد سواء ... أياً يكن من أمر، لا مندوحة عن السير على طريق الحرية والاستقلال، واللجوء إلى أدوات ورافع، تخلينا عنها قبل أن تتخلى إسرائيل عن احتلالها وعدوانها وعنصريتها، طريق المقاومة بكل أشكالها، طريق الصمود والثبات والاستعداد للنزال لرفع كلفة الاحتلال، حتى يرفع عقيرته ويرحل عن أرض الآباء والأجداد.
على أنني أرى أن أولى أوليات ما تبقى من العمر، الذي نتمناه طويلاً ومديداً، إنما تقع في مطرح آخر، فقد آن الأوان، وقبل أن نجد أنفسنا مضطرين لاسترجاع زهير بن أبي سلمى، وصدر معلقته الأشهر: “سئمت تكاليف الحياة ومن يعش ... ثمانين حولاً لا أباً لك يسأم”، أن نضمن انتقال الراية خفّاقة لجيل جديد من القيادة، يواصل المشوار الطويل والصعب، ويضمن انتقالاً سلساً للسلطة، ويؤمن ترتيب البيت الفلسطيني الداخلي، ويخرج حركة فتح، من أزمتها القيادية، ويضمن بقاء منظمة التحرير ممثلاً شرعياً، غير مطعون في شرعيته، شرعية غير متنازع عليها، وغير قابلة للقسمة على فصيلين أو أكثر.
نشهد كما تعلم، صراعاً على “الخلافة”، فيض الأسماء ينذر بالقلق والخطر ... جنرالات سابقون وأعضاء في “مركزية” فتح، وآخرون من خارج “العمود الفقري” و”الرصاصة الأولى” ... جميعهم مشاريع رؤساء وقادة ... جميعهم يُجري حساباته، وبعضهم يُجري اتصالاته مع عواصم لم نر منها خيراً في يوم من الأيام ... الكل يشعر بأنه مؤهل وأنه يستحق ... الجميع يشعر بأنه الأولى، وفي ظني أن وضعاً كهذا، يثير القلق على مستقبل الشعب والقضية، أكثر من أي تهديد آخر ... في ظني أن وضعاً كهذا، سيعجل في نهاية الحركة التي أيقظت الحركة الوطنية الفلسطينية وأعادت بعثها من جديد.
لا مهمة تتقدم على مهمة حفظ البيت الفلسطيني وتأمين انتقال سلسل للسلطة داخل فتح والسلطة والمنظمة وعلى رأس الدولة، التي ما زالت “خريطة على ورق” ... هنا بمقدورك أن تنجز، وأن تحقق تقدماً ملموساً ... هنا بمقدورك أن تجبه الضغوط وتفتح صدرك للريح والتحديات ... هنا بمقدورك أن تنام قرير العين، وأن تطمئن لمستقبل أسرتك الكبيرة.
لا أدعوك للتوقف على مطاردة إسرائيل، بل أناشدك الاستعجال بفعل ذلك، من دون شروط أو أوهام، ومن دون انتظار لقرار عن مجلس الأمن، أو لضوء أخضر لن يشتعل من واشنطن ... لا أدعوك للكف على طرق “جدران الخزان”، بل أضم قبضتي إلى جانب قبضاتك في قرع الجدران ... لكن لـ “هندسة الوقت” و”فقه الأولويات والضرورات”، منطقه الخاص، والمنطق يقول هنا، إن عليك أن تختار نائبك، وأن تخضعه لاختبار الشعبية والتجربة، وأن تسعى في بناء توافق من حوله، وأن تعمل على تسويقه وتسويغه ... فلا أحد يضمن عمره، (ولا تدري نفسٌ بأي أرض تموت)، وأنت تعلم أكثر منّا جميعاً، أن إسرائيل لن تترك طليقاً، لا سيما أن أنت مهرت بخاتمك، طلب العضوية لاتفاقية روما.
أنت الأدرى بحال فتح والسلطة والمنظمة ... انت الأعرف بصراع الضواري في الإقليم على الورقة الفلسطينية ... أنت تعرف “سفراء” العواصم والأجهزة عندك في رام الله، واحداً واحداً، فهم رفاقك منذ زمن طويل، وأجهزتك والأجهزة الصديقة، لا تكف عن تزويدك بالمعلومات والتقارير عن ترتيبات تجريها عواصم لضمان “القبض” على الورقة الفلسطينية، عند أول لحظة، تخور فيها العزائم وترتخي العضلات.
افعلها، وانطلق في رحلة ترتيب بيت فتح الداخلي، الآن، الآن وليس غداً ... افعلها واشرع بترتيب البيت الوطني الفلسطيني برمته، من السلطة إلى المنظمة وصولاً إلى الدولة ... كل جهد على هذا الطريق، سينتج ثماراً طيبة ... و سيقربنا من خط النهاية، نهاية الاحتلال والاستيطان والعدوان والعنصرية ... فلا تصرفك الحركة الدبلوماسية والاتصالات والاجتماعات عن رؤية هذه المهمة، التي لا تفوقها أهمية، أية مهمة أخرى، فاجعلها على رأس جدول أعمالك، وانجزها وانت في ذروة يقظتك وإمساكك بمقاليد الأمور وأوراق اللعبة... افعلها قبل أن يصبح شعبك في موقع “المفعول به”... افعلها يا سيادة الرئيس، فقد سئمنا وجوهاً أكل الدهر عليها وشرب، وحفر عليها أخاديد وحفائر غائرة ... سئمنا من قيادات مضى على “قيادتها” عشرات السنين، سئمنا من أسماء ومسميات وألقاب، فقدت قدرتها على التواصل مع جيلين من أجيال النكبة، تخلو من ممثليهما مؤسسات السلطة والمنظمة ... سئمنا من شيخوخة الثورة والحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة.