تُواجَه الدعوة لوقف الحرب بهجوم معاكس رافض لها ولمن يقفون معها، ولأسباب متعددة ومتنوعة. هناك من أشعلوا الحرب لتحقيق مصالح سياسية وعسكرية واقتصادية، وهؤلاء لم تتحقق كل أهدافهم بعد، لهذا فإنهم يواصلون حملة الحرب في الإعلام. وهناك آخرون تأذوا بشكل خاص من انتهاكات «الدعم السريع»، وصار لديهم موقف نفسي لا يقبل إلا أن يرى هذه الميليشيا مقهورة ومسحوقة أمامه، هم أسرى الرغبة في الانتقام الشخصي. هؤلاء لهم عذرهم، وإن كان مثل هذا الشعور لا يمكن أن يتم بناء موقف سياسي عليه.
هناك نوعية أخرى من الكتابات التي يفترض أنها جزء من الكتلة المدنية، ولكنها تصب جهدها في معاداة كتلة «تقدم»، من دون غيرها، أو تتعامل مع الشعار وكأنه ملك حر لكتلة «تقدم»، فتعاديه، فتقول إنها مع وقف الحرب «... ولكن»! وتقدم تبريرات كثيرة لهذه «اللكننة». هذا الموقف المشروط يضعف الكتلة المعادية للحرب بشكل مباشر، ويتناقض مع الاصطفاف الطبيعي المفترض لهؤلاء مع مناهضة الحرب والمناداة بوقفها الآن. ومن الممكن، والطبيعي أيضاً، أن تتغير الاصطفافات بعد وقف الحرب، ومناقشة مستقبل البلاد فيما بعد ذلك، بحسب ما تطرحه كل جهة من مواقف وتصورات.
حتمية هذا الاصطفاف، فيما أرى، نابعة من موقف قبل وبعد بداية الحرب مباشرة، أنها حرب... من يخسر أكثر، وهذا عنوان مقال نشرته بهذه الصحيفة في مايو (أيار) 2023، وليس فيها طرف سيكسب الحرب ويسحق الطرف الآخر، لا الجيش قادر على سحق «الدعم السريع» ونفيها من الوجود، ولا «الدعم السريع» قادرة على الانتصار الكامل على الجيش والسيطرة على كل السودان. واستمرار الحرب بصورتها الحالية يعني دماراً مستمراً للدولة السودانية وبنياتها الأساسية ومواردها ومقدراتها وحتى شعبها. ولم تكن هذه نبوءة ولا قراءة عبقرية فردية، وأعلم أن كثيرين اشتركوا في هذه الرؤية لأن مؤشراتها كانت واضحة.
نتيجة هذه الحرب واضحة الآن لكل من يريد أن يرى؛ ملايين اللاجئين والنازحين، مئات الآلاف من الأسر مشردة في معسكرات وأماكن النزوح بلا قدرة على حماية أنفسهم وأطفالهم. والذين بقوا في أماكنهم ومنازلهم يتعرضون للانتهاكات الواسعة، من نهب وسلب وقتل وتصفيات بالمجان بجانب تعرضهم لقصف الطيران الأعمى، والتدوين المدفعي والملاحقات الأمنية إن لم تتوافق مع الموقف المسيطر.
كل الاشتراطات المرتبطة بوقف الحرب هي اشتراطات تعجيزية ومؤداها استمرار الحرب لتحقيق رغبة لا يسندها الواقع، أو هي افتراضات بمواقف مستقبلية غير مسنودة ببراهين، أو هي مواقف داعمة للحرب كما هي، لكنها تتستر بالاشتراطات.
فمثلاً بعض الذين يضعون الاشتراطات يقولون إنهم يتخوفون من أن وقف الحرب قد يكون ثمنه عودة «الدعم السريع» للسلطة شريكة مع الجيش، أو أنه سيتم تقسيم السودان فيكون للجيش سلطة على بعض أجزاء البلاد بينما يقع بعضها الآخر تحت سيطرة «الدعم السريع»، وهم يتشاركون مع أغلبية الشعب السوداني، كما أعتقد، في ضرورة أن ينتهي أي حل لمشكلة السودان بحل «الدعم السريع»، وكل الميليشيات وبناء جيش قومي موحد.
السؤال المنطقي هو: ما الحالة الأقرب لتحقق هذه المخاوف؟... هل وقف الحرب أم استمرارها؟ المؤكد أن استمرار الحرب يحمل إمكانية أكبر لتحقيق هذه المخاوف أكثر من حالة وقف الحرب. استمرار الحرب يعني مزيداً من مخاطر تقسيمها أو انهيارها كلياً، فنحن نعيش الآن في حالة غياب الدولة عن أجزاء كثيرة من البلاد، ووجودها مع العجز في مناطق أخرى، وقد ظهر ذلك جلياً في عدم القدرة على مساعدة وإغاثة ضحايا الفيضانات والسيول في الشمالية ونهر النيل والبحر الأحمر. دعك من ولايات دارفور ومدنها.
السؤال الذي يهم هنا أيضاً هو: لماذا افترض هؤلاء أن من يدعون لوقف الحرب فوراً يدعمون استمرار «الدعم السريع» كقوة موازية للجيش...؟ استبطان هذا الاعتقاد من دون وجود أدلة عليه يجعله مجرد عذر لتغطية الرغبة في استمرار الحرب مع استخدام التورية.
الثابت حتى الآن أن القوى المدنية التي تتبنى هذا الشعار، سواء داخل كتلة «تقدم» أو خارجها، تجهر برأي موحد ينادي بجيش قومي موحد وتصفية كل القوات والميليشيات، بمن فيها «الدعم السريع»، ونزيد على ذلك المطالبة بإبعاد كل العسكر من العمل السياسي، بمن فيهم الجيش. موقف لا للحرب من دون اشتراطات، سواء كانت هذه أو غيرها، هو الموقف المنسجم مع الشعارات المذكورة أعلاه، لا غيره.