أخر الأخبار
متن السياسة... وهوامش الحروب
متن السياسة... وهوامش الحروب

لغة الرصاص باتت أسهل من لغة السياسة والحوار، كنا نعرف أن الحرب هي أداة واحدة من أدوات السياسة المتعددة، لكننا الآن إزاء انقلاب شامل في المفاهيم، فقد باتت السياسة هي الهامش، بينما الحرب صارت هي المتن، رغم أنه في الأصل لا بد من أن تكون السياسة هي المتن، والهوامش معاً.

الشاهد الآن أن الحروب الدائرة من أوكرانيا وغزة والسودان، وبعض المناطق الأخرى، تؤكد هذا المفهوم الذي باتت فيه الحرب هي الوسيلة الوحيدة لتنفيذ الأهداف، من دون النظر إلى مقدرات الشعوب والأمم، واستقرار المجتمع الدولي.

إن التماهي مع هذه الوسيلة، جعل معهد الاقتصاد والسلام في لندن، يؤكد في تقريره الـ18 من مؤشر السلام العالمي، الصادر في يونيو (حزيران) الماضي، أن العالم يتجه نحو صدام هائل، بل ربما يكون الأكبر من نوعه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، لا سيما أن العالم يشهد 56 صراعاً دولياً حسب هذا المؤشر.

ثمة سؤال يطرح نفسه الآن: كيف وصل المجتمع الدولي إلى تبني الحرب وسيلةً لإدارة الأزمات بين الدول والشعوب؟ وكيف سمحت منظماته الدولية بالتكيف معها من دون التوصل إلى تنفيذ أي قرار دولي بوقف الصراعات؟

الواقع يؤكد أن هذه المنظمات الدولية تقادمت، ولم تعد لديها أي قوة قادرة على تنفيذ قراراتها الدولية، أو منع أي صدام وقائي.

لو تأملنا مجريات الحرب الإسرائيلية الشنيعة على الشعب الفلسطيني، في غزة والضفة الغربية، والاعتداءات على المقدسات الإسلامية، والمسيحية في القدس، يتأكد لنا خطر هذا المفهوم الجديد للسياسة «العسكرية»، فلغة الرصاص طردت لغة الحوار، وقطعت الطريق أمام طاولات التفاوض، ونرى أن رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، وبعض أركان حكومته يؤمنون إيماناً قاطعاً بلغة الرصاص، والقتل، والتصفية، من دون النظر إلى الاعتبارات السياسية، تلك الاعتبارات التي أقرّها المجتمع الدولي والقانون الدولي الإنساني، بضرورة ووجوب حماية السكان الفلسطينيين تحت الاحتلال، ثم الاعتراف بدولتهم، كما نصَّت قرارات المجتمع الدولي، لكننا نرى عكس هذا المفهوم من خلال التصويب على كل هذا الميراث وقتل القواعد الدولية، كأنه يريد أن يشكل سياسة من نوع جديد تقوم على لغة الحرب لتنوب عن لغة السياسة والدبلوماسية، بكل ما تعني من تاريخ، كأنه يكتب صياغة جديدة لمفاهيم إدارة الأزمات الدولية.

وليس بعيداً عن هذا المفهوم ما جرى ويجري بين أوكرانيا وروسيا، منذ فجر الرابع والعشرين من فبراير (شباط) 2022، صحيح أن الخلاف بين البلدين كان عميقاً منذ سنوات طويلة، تربو على ثلاثين عاماً، أي منذ سقوط جدار برلين عام 1989، وانهيار الاتحاد السوفياتي عام 1991، واستقلال أوكرانيا في العام نفسه، لكنَّ المفاهيم السياسية بين البلدين التي ارتضاها الطرفان جرى تهميشها وتكسيرها حتى وصلت إلى الاندفاع العسكري المباشر بين الإخوة الأشقاء، وكان يمكن ألا تقع هذه الحرب من الأساس، لكنها تحت سطوة الرغبة في تغيير مفهوم إدارة الخلافات، واستعمال لغة الرصاص بدلاً من لغة السياسة، اندلع هذا الصراع الدموي ويستمر إلى الآن، ولا يبدو لنهايته أي أفق، وقد يتوسع ليشمل أوروبا بالكامل، ولا شك أن أوروبا تستشعر الخطر، ومع ذلك تستخدم لغة الحرب من خلال إرسالها عشرات الآلاف من أطنان السلاح والذخيرة إلى مسارح العمليات، كما تستخدم الموانع السياسية والدبلوماسية في أروقة المنظمات الدولية، كجزء يسير وبسيط من السياسة، ذرّاً للرماد في العيون حتى تحافظ على هياكل المنظمات الدولية، مبانيَ وليست معاني.

إن صورة هذا المفهوم باتت قناعاً للسياسة الدولية، فالحرب في غزة مثلاً كان يجب أن تخضع للفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على التدخل الأممي وحماية السلم الدولي إذا دعت الحاجة إلى ذلك، كما جرى في العراق ويوغسلافيا ورواندا وغيرها، لكنَّ الجالسين في مختبرات صك المفاهيم الجديدة للتعامل مع الأزمات يرغبون في سيادة ثقافة اللجوء إلى الحروب للوصول إلى تأكيد أن الحرب وحدها هي كل أدوات السياسة وليست أداة واحدة منها.

هنا أتذكر خطاب الرئيس الأميركي جو بايدن، الذي ألقاه في 19 أكتوبر (تشرين الأول) 2023، أي بعد 12 يوماً من حرب السابع من أكتوبر، الذي دعا فيه بوضوح إلى الاستثمار الذكي في الحروب قائلاً: «على أميركا أن تدعم إسرائيل في حربها ضد غزة، وأوكرانيا في حربها ضد روسيا، بالمال والعتاد العسكري، وذلك لأن الاستثمار في هاتين الحربين هو في صالح الأجيال المقبلة في الولايات المتحدة الأميركية».

وأعتقد أن الرئيس بايدن لخَّص هذا المفهوم الذي يطبَّق الآن بدقة متناهية، لا شك أن ترسيخ مفهوم أن الحرب هي كل السياسة لهو خطر شديد على سلامة واستقرار المجتمع الدولي، وسوف يعجّل بانهيار منظماته الدولية، ويرى بعض المتشائمين أنه قد يجعل الحرب العالمية الثالثة أقرب مما نتخيل، وسط زحف هذا المفهوم إلى عقل الرأي العام. يجب أن تكون هناك أفكار بديلة يستعيد معها المجتمع الدولي مفاهيمه المستقرة بأن السياسة هي الوسيلة الشاملة، وأن الحرب ليست سوى أداة من أدوات السياسة، وأن الرهان عليها سيُفضي إلى التدمير الشامل للحضارة الإنسانية.