لم تقتصر معاناة الدولة العربية الرسمية على الضعف والارتهان السياسي وغياب التأثير الدولي فقط , بل تعدَّتها الى غياب التأثير الداخلي وانحسار الثقة بكل قراراتها الداخلية , ولتوضيح الصورة فثمة دول كثيرة على الخريطة الكونية تعاني من الارتهان السياسي وضعف النفوذ الدولي ولكنها تحظى بثقة شعوبها مثل دول اوروبا الشرقية السابقة ودول الكومنولث ودول اسكندنافية وافريقية كثيرة .
أزمة الدولة العربية تكمن في أن قراراتها الداخلية تحظى بالنقد الدائم وقلة التصديق الشعبي وربط كل قرار بارتهان خارجي , من رفع أسعار سندويشة الفلافل الى المشاركة في اي حلف خارجي او الدخول في معاهدة دولية , فهناك من يتهم جهات خارجية بالضغط على الدولة المركزية للاذعان كما جاء في تصريحات وزير الداخلية حسين المجالي امس حول مشاركة الأردن في الحلف ضد داعش او “ ISIS “ حسب التعبير الغربي .
في ذات الوقت تُطالب جبهات المعارضة وفيالق التشكيك في الرواية الرسمية بسلوك سياسي يقارب أو يشابه سلوك الدولة الغربية الديمقراطية , التي تترك السوق يصوّب نفسه وتفتح المجال للحريات الفردية على إطلاقها دون ضوابط ومعايير اجتماعية او دينية ولكن بخطاب مُلتبَس ومتناقض , فطالما أن الصورة النهائية المطلوبة واحدة فلماذا الاختلاف ؟ الذي فتح المجال أمام تنظيمات التطرف , فملأت الفراغ الناجم عن الاختلال في المعادلة العربية , فأنتجت تلك التنظيمات واقعا جديدا , عنوانه العريض مجابهة الغرب الكافر وإنتاج دولة الخلافة التي يتحقق فيها العدل بين الناس على أساس ديني .
الدولة المركزية العربية متهمة بالارتهان وخضوعها للضغط الخارجي من دول محددة بعينها , ونجد كتائب المعارضة بالمقابل تطلب رضا تلك الدول بل تطالبها بالوقوف معها أمام الدولة المركزية , ولا أحد يصدق أن الثمن ليس واحدا , وكأن الخلاف على شكل الارتهان ومن يقدم ضماناته وليس على الارتهان نفسه , ولعل النموذج المصري خير دليل على ذلك , فنظام مرسي وافق على كل ما انتجه نظام مبارك وسلفه السادات مع الغرب والكيان الصهيوني من معاهدات واتفاقيات ولم يقدم خطوة واحدة للخروج من تبعات هذه الاتفاقيات وشروطها الإذعانية كما كان يطالب نظام مبارك ويطالب نظام السيسي الآن .
والمعارضة الأردنية سامحت النظام المصري على الاستمرار في اتفاقيات كامب ديفيد وتسامحت قبله مع النظام السوري بالجلوس في مدريد وما تلاه ولكنها هاجمت الدولة الاردنية على اتفاقية وادي عربة والسلطة الفلسطينية على اتفاقية غزة اريحا , والحال مستمر مع تركيا وايران رغم وضوح المشروعين الإيراني والتركي للانقضاض على الدولة المركزية العربية وإلحاقها بالدولتين , أي إحلال إذعان مكان إذعان .
اختلال الموازين المعرفية والسياسية بين اركان الدولة المركزية “ معارضة وحكومة “ انتج الفراغ الذي نفذت منه تنظيمات التطرف , وانتج حالة من ادارة الظهر للدولة من المواطن العادي غير المسيّس , فتقلصت مفاهيم المشاركة السياسية , لعدم وجود البديل الوطني الملتزم بنهج واضح , فما يقبله الحزب الأردني لنظيره المصري يرفضه لدولته والعكس صحيح , وما نادى به الحزب المصري طوال عقود انقلب عليه بعد جلوسه على كرسي الرئاسة وهكذا الحال في اليمن والعراق وسوريا وليبيا .
الاختلال انتج صوت وصدى صوت , وليس صوتين ما أضعف حاسة الاستماع في الاذن العربية الشعبية , ففقدت ثقتها بالمطروح على الموائد السياسية مما سمح للصوت وصداه في الارتفاع اكثر واكثر محدثة الضجيج الحاد في الوطن العربي الآن , فباتت القلة عالية الصوت تأكل الاخضر واليابس، وباتت الاذن تسمع قرارا ورفضه دون خيار ثالث , لانعدام الأصوات البرامجية الوطنية فأعلت تنظيمات التطرف صوتها تارة بالذبح وتارة بالاسلحة فطغت على أصوات الجميع وهذا ما نعانيه الآن .