خلال وجودي في الولايات المتحدة التقيت ببعض الأشقاء العرب المحبين للأردن والمقيمين في الولايات المتحدة وكان الحوار عن الاْردن وأحوال المنطقة، وخلال احد الحوارات سأل احد الحضور عن الملك وعلاقته بالناس وبخاصة بعد سنوات من الأحداث العاصفة في المنطقة وما يسمى بالربيع العربي.
وهذا السؤال ربما يفتح في أذهاننا مساراً للتفكير في قدرتنا كمؤسسات وجهات مسؤولة في الحديث عن أمورنا حتى تلك التي تتعلق بمؤسسة الحكم بعمق ومنطق بعيداً عن النمط التقليدي الذي فقد قدرته على التأثير وتحول إلى ما يشبه العبء على من يمارسه ومن يتلقاه.
وبالعودة إلى سؤال الصديق العربي المعجب بأداء الاْردن وقيادته خلال ما مضى فإن الملك قد يكون الزعيم الوحيد الذي خرج من هذه المرحلة الصعبة وقد عزز لدى كل منصف وموضوعي القناعة بأنه زعيم يتحرك وفق رؤية ويملك القدرة على إنقاذ شعبه وبلده من ويلات الفوضى الداخلية السياسية والأمنية وحافظ على أن تبقى كل أنواع الخلافات داخل إطار الدولة والدستور دون لجوء لا من الدولة ولا غيرها إلى أي مستوى من القوة أو الدم أو حتى الصدام.
والملك أدار المرحلة بعقلية المقاتل الذي يذهب إلى المشكلات ويتعامل معها، سواء بالمواجهة السياسية أو الحديث بها أو اتخاذ إجراء.
فمثلاً قبل سنوات كان هناك من يتعمد الإساءة لشخص جلالة الملك وحتى أسرته الصغيرة، وكان هناك أحاديث استغل البعض مواقع التواصل الاجتماعي للحديث بها، وعندما بدا الحراك أمتد استغلال الشارع من قبل البعض للحديث بهذه الإساءات، لكن كل هذا لم يشكل حالة استفزاز سياسي أو شخصي للملك. وتحدث وأساء البعض ممن كانوا يعتقدون أنهم من أهل الجرأة، وأفرغ كل من لديه إشاعة ما لديه.
وحتى عندما كان بعض النفر المحدود يحاول الحديث بإسقاط النظام كشعار تحدث به الملك بوضوح وقال للناس إن إسقاط النظام هو إسقاط الدولة والمؤسسات، وهو فهم ثبتت صحته في محيطنا فلا الدول بقيت ولا الإصلاح تحقق.
وعندما كانت المطالبة بتعديل الدستور وكان البعض يعتقد أن مطالبته بالعودة إلى دستور ١٩٥٢ جرأه ونقلة إصلاحية ذهب الملك إلى ما هو أبعد من هذا المطلب بتعديلات واسعة وهامة ربما نحتاج إلى جهد كبير في إدراك أبعادها الإصلاحية.
ورغم كل الصخب في تلك المرحلة إلا أن الملك حافظ على نهجه في البقاء قريباً من الناس في كل مكان، فهو في البيوت وفي الشوارع وفي المطاعم وفي المؤسسات، لم يبتعد تحت مبرر الدواعي الأمنية، ولم يشعر الناس أن الاْردن سلطة قلقة ومواطنين غاضبين، فالملك هو من يتحدث بلسان الناس، وهو المعبر عنهم.
ربما لأننا نحن الأردنيين أهل هذا البلد لا نشعر بمعنى النهج الذي نمارسه كدولة ومواطنين، لكن الآخرين يَرَوْن المشهد من الخارج ويرون ملكاً لبلد صغير محدود الموارد يتحرك في كل العالم ويسمع له الجميع، زعيم يداه لا تمتد لشعبه إلا للتحية، وليس بالسلاح أو القمع، حاضر في العالم بثقة تعززها تجربة ناجحة في إدارة مرحلة قلقة حرجة لم تنج منها دول كبرى حولنا.
ولعل ميزة الحكم في الاْردن أنه ليس فقط نظاما سياسيا، بل موسسة حكم لها تاريخ ورسالة، فالهاشميون سلسلة واحدة لا يقبل أي منهم أن يسجل على نفسه دماء وقمعاً، رسالة عنوانها العمل على خدمة قضايا الأمة، وروح زعامة ليس دافعها النفوذ السياسي أو توسيع الجغرافيا بل حمل القضايا الكبرى، فهم ليسوا سياسيين بالمفهوم الوظيفي بل نهج حكم ونسب إلى قيم حكم وأخلاق رفيعة.
اليوم نسمع من شعوب حكمها الهاشميون أمنيات بعودة هذا النهج الراشد، ولهذا فكلمة السر في قراءة نهج الملك هو تلك الروح والأصالة والرسالة التي لا يقبل هاشمي أن يخرج عنها.
الأمر ليس إستغراقاً في التاريخ بل هوية حكم ونسب وعراقة وأصول في إدارة العلاقات مع الجميع قديماً وحديثاً بما فيها مرحلة ثورة شريف مكة الحسين بن علي إنتصاراً لحق الأمة في مواجهة مشروع التتريك وليس الخلافة.
لن أتحدث طويلاً عن إداره الملفات الإقليمية فالملك كان هو الحريص على سوريا العربية وتحدث منذ اليوم الأول عن الحل السياسي وما زال حتى اليوم، بينما آخرون لم يترددوا في التضحية بسوريا الدولة والشعب مقابل شهوة نفوذ أو الثأر من نظام بشار، فضاعت سوريا وتحول ملايين من شعبها إلى نازحين وبقي النظام وتحملنا نحن في الاْردن العبء الأكبر لكننا نفخر أن قيادتنا لم تدخل مزاد البيع والشراء لبلد وشعب عربيين، وكذلك الحال في العراق وغيره.
للصديق الذي يسأل عن الملك وعلاقته بالناس بعد هذه السنوات العصبية في المنطقة أقول إن الجواب في النظر إلى دولة تنام آمنة مستقرة، وشعب يدرك جيداً أنه تحت حكم ملك لو لم يكن ملكاً في حكمته وخلقه لما تردد البعض في تحويله إلى ساحة عبث وسوق سلاح، ملك يفخر بشعبه ومؤسسات دولته ولا يخاصم حتى من تغيب عنهم الحكمة أحياناً في تعاملهم مع دولتهم وقيادتهم.
ملك يعرف المشكلات التي تعاني منها بلده ويتحدث بها ويحاول أن يصل إلى الحلول أو على الأقل التخفيف من الأعباء.