يصل الموهوب الكاريزمي إلى موقع القيادة وكأنه مخلوق له. وفجأة يبتلع الأضواء ويطغى على الفريق. يخفض سقف الأمل في المؤسسة إلى درجة الاختناق، ويصيبها بالتحدب تحت ثقل طموحاته الشخصية وذاته المتضخمة على أكتافها. وتتحول المؤسسة إلى «عرض أحادي». وتخلق ما يُعرَف بـ«الظل الكاريزمي»؛ حيث يخيم ظل القائد على الفريق، ويخفي إنجازات أفراده، ويحبطهم عن المشاركة الفعالة.
من السهل عند تلك المرحلة أن ننعت هذه الشخصية بالنرجسية. لكن المهم أن نتذكر أن التلامز بالتشخيصات ليس الهدف، بل السعي إلى وضع أصبعنا على مكمن المشكلة. وهي ليست الكاريزما.
والدليل هو نمط القيادة المقابل تماماً لهذا النمط. قائد موهوب، ومتواضع، ولا يحب الظهور، وأبعد ما يكون عن الكاريزما. لكن لو دققت، ستجد أنه لا يحيط نفسه إلا بالمواهب المتوسطة التي يضمن انتساب صعودها إليه، كما يضمن القدرة على محو هذا الصعود إن أراد. ما مشكلة هذا القائد إذن؟ هنا ربما نحتاج فعلاً إلى العيادة النفسية. لأن المشكلة أخفى وأصعب في التشخيص، لكنها لا تقل ضرراً. «النرجسية المموهة» عبارة انتقلت من التحليل النفسي إلى الاستخدام الإداري في العقود الأخيرة. هذا النوع من القادة، النرجسي المموَّه، ورغم ما يظهر على السطح من تواضعه، لا يقل ضرراً عن النرجسي الكاريزمي. كلا النوعين يؤثر سلباً على حظوظ الفريق. ظل الكاريزما يخلق ثقافة لا تبرز سوى الواحد الظاهر، والنرجسية المموهة تخلق ثقافة تدين بحضورها للواحد المختفي. وآية ذلك أن كليهما، على التضاد الظاهر، ينشر ثقافة المديح والثناء على القائد. وفي كلا النوعين تكون الضحية المواهب المميزة التي تصنع الفارق بين الجيد والممتاز. كل الفارق أن النرجسية الكاريزمية تطمس، والنرجسية المموهة تغرقنا بالكثير والكثير من الجيد المحدود.
تعبر النرجسية، بكل تجلياتها، عن شعور عميق بعدم الأمان، وعجز عن رؤية الجمال خارج حدود المرآة، وهو ما يظهر إدارياً في رغبة القائد بالإمساك بنفسه بكل الخيوط. وهذه تركيبة تنسف ركيزة النجاح الإداري؛ كونه القدرة على تنويع المواهب داخل الفريق بخليط من أصحاب الفكر الخلاق والفكر التحليلي والبراعة التنفيذية. هذا التنوع يخلق توازناً مثالياً بين الابتكار، والقدرة على تشخيص العوائق والتعامل معها، وجودة التنفيذ. الاعتماد على البروتين وحده ربما يمنح المؤسسة عضلات ضخمة، لكنها ستعاني في نضارة البشرة، وسقوط الشعر والأظافر، وربما ضعف البصر.
شغل ترمب الأنظار على مدار العقد الأخير كله. وهو بلا شك ينتمي إلى القيادة الكاريزمية. وفي صعوده السياسي الأول أمر فنيي الإضاءة بأن يحيطوه وحده بدائرة الضوء، أينما تحرك على المسرح. خاض المعارك بنفسه، ناقش الإعلام في كل مجال بنفسه، خبت الشخصيات من حوله، فلا نتذكر منهم أحداً، وانزوى أصحاب الطموحات بأنفسهم بعيداً عنه، حتى محبوه اكتفوا بالمشاهدة والتصفيق والتشجيع. وفي النهاية وجد نفسه وحيداً.
لكنني أعتقد أنه تعلَّم من تجربته تلك، وأجرى في سنوات ابتعاده عن البيت الأبيض مراجعة ذاتية، وتعلَّم درساً أساسياً، وعاد بسلوك أكثر نضجاً. سواء أكنت كاريزمياً أو تفضّل العمل في الخفاء، فالقائد القوي يحرص على إحاطة نفسه بالأقوياء الموهوبين، ولا يخشى مشاركتهم الأضواء بوهجهم الذاتي. وجود أقوياء لم يصنعهم إلى جواره يضيف إليه، ويصب في صالح قيادته، ويشهد لها. ويكسب الفريق طعوماً متنوعة تجذب شرائح متعددة. إيلون ماسك، عنوان الابتكار، ينضم إليه، وجو روغان، نجم الإعلام الحديث، يعلن دعمه له. روبرت كينيدي جونيور وتولسي غابارد، ينتقلان من ضفة الديمقراطيين إلى ضفته. حتى النائب الذي اختاره لنفسه، جي دي فانس، ورغم كونه جمهورياً، فإنه كان من معارضي ترمب داخل الحزب. وهو نفسه شخصية مشهورة أنتجت «نتفليكس» فيلماً روائياً عن سيرته الذاتية. بالنسبة لي، بدا ترمب في هذه اللوحة الزاهية أقوى وأكثر ثقة مما كان في اللوحة الباهتة.
ما نتعلمه من تجربة ترمب، بعيداً عن الإعجاب أو النقد، أن القيادة في السياسة أو البزنس تعتمد على الموهبة، لكنها تحتاج أيضاً إلى روافد تثريها. هي خليط من فنٍ وعلم. كلما انتقلت من مجال إلى مجال هناك جديد لتتعلمه. قد تكون مديراً ناجحاً في شركة تملكها، فإن انتقلت إلى العمل العام احتجت إلى أن تضيف إلى مهاراتك مهارات أخرى تتكيف بها مع الوضع الجديد. قد تكون ناجحاً في مؤسسة مضمونة التمويل، لكن في مؤسسة تنافسية الموضوع مختلف. الصراع يعرض القائد الإداري لتحديات، ويكسبه أيضاً دروساً وخبرات. ربما تكون تلك التحديات غائبة عن مجالات كثيرة في منطقتنا بسبب المركزية، لكننا نستطيع على الأقل أن نتابع ونتعلم.