يقولون دائماً إنه لا فرق بين رئيس وآخر في الولايات المتحدة، سواء أكان ديمقراطياً أم جمهورياً، فيقال إن أميركا دولة المؤسسات، يختلف الأشخاص، وتبقى السياسة واحدة، لكن الأمر تغير الآن مع العائد من جديد إلى البيت الأبيض دونالد ترمب، الذي صاغ لنفسه فلسفة تستند إلى قاعدة جماهيرية غير مسبوقة لأي رئيس أميركي خلال نصف قرن مضى.
الفلسفة الترمبية تقوم على عدم الانخراط في أي حروب جديدة أو التدخلات العنيفة بالثورات أو الانقلابات في البلدان المختلفة، بل تعمل على تعظيم الجانبين الاقتصادي والاستثماري والتفوق التكنولوجي، على أن يفعل كل هذا من خلال ذات الفلسفة القائمة على السلام من خلال قوة الردع، أي أنه يحتفظ لأميركا بقوة التفوق على أي قوى أخرى منافسة في العالم؛ ما يجعل واشنطن تستمر في صدارة المشهد العالمي من دون تدخلات مرئية.
إن هذه الحالة الترمبية التي باتت تشغل الرأي العام العالمي، أربكت حسابات خصوم وحلفاء أميركا، البعض يرى أن الطبعة الجديدة من ترمب ستواصل نهجها الانعزالي الذي ساد في ولايته الأولى، بينما يرى البعض الآخر أننا أمام شخصية جديدة وسياسة جديدة. خرائط العالم في انتظار فتح صندوق ترمب، للاطلاع على ما به من ملفات وحسابات ومعادلات وتقديرات لمستقبل عالم ما بعد هزيمة الديمقراطيين، وفوز الجمهوريين.
بعيداً عن تخوفات أوروبا وترقب الصين والانتظار الروسي، فإن ثمة سؤالاً يطرح نفسه على طاولة العرب، في ظل عودة ترمب، والسؤال هو: ما الخطوط الحمراء التي لن يسمح العرب بتجاوزها من قبل سياسة ترمب الجديدة؟
سؤال مهم في توقيت دقيق. عندما يجلس ترمب في مكتبه البيضاوي في العشرين من يناير (كانون الثاني) من عام 2025 المقبل، سيكتشف أن الخرائط العربية تغيرت كثيراً عما كانت عليه إبان ولايته السابقة، وأن الحروب أصابت قلب المنطقة، وتطايرت شرارها إلى معظم الإقليم، وباتت تنذر بتهديد وجودي للسلام الإقليمي والعالم، وأن مبادرته الأولى بالسلام الاقتصادي، أو الازدهار القائم على التعايش المشترك لم يعد لها وجود مع أصوات المدافع وأزيز الطائرات، وقتل الأبرياء، وترويع الآمنين، وتمزيق خرائط الإنسانية.
عندما غادر ترمب البيت الأبيض، ترك وراءه قصة واحدة في فلسطين، وعندما عاد صارت القصة قصتين، غزة ولبنان، ولهما صدى في سوريا والعراق واليمن وإيران، ومن ثم فإن هذا الصدى قد يرتطم بالمصالح الأميركية في الشرق الأوسط.
ربما يأتي ترمب هذه المرة محملاً بتصور مختلف تجاه المنطقة والإقليم، ولكن أياً كان ما يحمله من تصورات، فإن العرب لديهم خطوط حمراء، وثوابت ومحددات من غير المسموح بتجاوزها أو القفز عليها.
أول هذه الخطوط الحمراء هو خط إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على حدود الرابع من يونيو (حزيران) عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وتطبيق حل الدولتين، وتقرير مصير الشعب الفلسطيني، فمن دون التوصل إلى حل لهذه القضية المزمنة التي تعد أم القضايا، وأقدمها في العالم، فإن السلام في المنطقة والعالم سيظل مفقوداً وبعيد المنال، وقد جرب ترمب هذا الأمر في فترته الأولى عندما اندلعت حرب صغيرة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية في غزة عام 2018، وقد تأثر بها الاستقرار العالمي في ذلك الوقت، وأدرك ترمب وفريقه التفاوضي أن القضية الفلسطينية معقدة.
أما الخط الأحمر الثاني لدى العرب، فهو الرفض الكامل لأي محاولة أخرى لإعادة إنتاج الفوضى تحت ذريعة الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان، مثلما جرى عام 2011، الذى سمي بالربيع العربي، بتشجيع مباشر من الإدارة الديمقراطية بقيادة باراك أوباما، ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون، ونتج عن ذلك حروب أهلية وتكسير أعمدة الدولة الوطنية، وظهور الميليشيات والجماعات الإرهابية، ومحاولة تمكينها من إدارة الفوضى والسيطرة على مفاصل الدول، وقد رأينا تجربة كاملة وشاملة في أكثر من عاصمة عربية، لا تزال حتى اللحظة تعاني آثار هذه الفلسفة المدمرة التي انتبه لها كل العرب، وحاولوا التخلص منها ومن آثارها، ونعتقد أن ترامب يعي ذلك جيداً، ويدرك حجم الضرر الذى لحق بالعلاقات الأميركية العربية، جراء انحياز أميركا لهذه الفلسفة، وتطبيقها في أكثر من بلد عربي.
ثالث الخطوط العربية الحمراء على طاولة ترمب، يتمثل في رفض العرب أي محاولة لدعم الجماعات والتنظيمات الإرهابية العابرة للحدود، فلدى العقل العربي انطباع راسخ بأن واشنطن دعمت، في مراحل سابقة، تلك التنظيمات الإرهابية، بدافع توظيفها لتحقيق مصالح أميركا الاستراتيجية، وقد أثبتت الوقائع أن استخدام هذه الورقة ارتد إلى صدر أميركا نفسها في أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001.
رابع هذه الخطوط الحمراء، يتعلق باندلاع الحروب الأهلية في أكثر من بلد عربي، وتشير بعض التقديرات إلى أن هناك أيادي خارجية، تؤجج هذه الحروب وتشعل الصراعات، بهدف تفكيك النسيج السياسي والاجتماعي في هذه الدول، لذا فإن العرب يعدون استمرار دعم الحروب والنزاعات بمثابة الخط الأحمر الأكبر، كونه تهديداً وجودياً لجزء رئيسي من الخريطة العربية.
أعتقد أن الخطوط الحمراء الأربعة لدى العرب تمثل خطوطاً عريضة، لما ينبغي أن تكون عليه العلاقة مع الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب، وأعتقد أيضاً أن ترمب وفريقه لا تغيب عنهم ذات الخطوط العربية الحمر.