وحدها تونس نجت من المصير المؤلم التي آلت إليها ثورات الربيع العربي، وهي حالة تستحق أن تضيء الطريق لبقية المآلات التي وصلتها مثيلاتها، حيث تمضي بثبات نحو ترسيخ منجز الثورة، بمأسستها، عبر اتفاقات وانتخابات، ودستور، وهي تجربة تثبت ان ثورات الربيع لم تكن مؤامرة على الأمة!
يقول ابن خلدون في مقدمته الشهيرة: «وإذا تبدلت الأحوال جملةً فكأنما تبدّلَ الخلقُ من أصله وتحول العالم بأسره وكأنه خلقٌ جديد ونشأةٌ مستأنفةٌ وعالَمٌ مُحدَث» ونحسب أن الأحوال فعلا تبدلت في مجملها في ذروة الربيع العربي، وافرزت ظاهرتين تتغذيان من بعضهما البعض، ولا يمكن التغاضي عنهما، أما الأولى فظاهرة القوة الشعبية، حيث أصبح للجماهير كلمة، ولوقفتها معنى، وقد كانت مجرد آحاد لها قيمة عددية بلا وزن نوعي، أما اليوم فشأنها مختلف، حيث غابت العبارات الانهزامية الشهيرة، مثل: وأنا مالي، أو: ماذا أستطيع أن أعمل، أو حط راسك بين الروس وقل يا قطاع الروس، وسوى ذلك من مفاهيم انهزامية استوطنت العقل الجمعي فشلّت قدرة الجماعة على العمل، أما الظاهرة الثانية التي أفرزها الربيع العربي فهي الظاهرة الإسلامية، فهي وإن كانت قبله موجودة كقيمة ثقافية وحضارية، إلا أنها دخلت مع الربيع معترك الحكم الفعلي، بكل قسوته، وعلى الرغم من أنها لم تأخذ فرصتها في التجريب والنضج، إلا أنها حفرت لها اسما في المشهد السياسي رغم الأخطاء الكارثية التي ارتكبتها، وهذا أمر طبيعي، فتلك كانت تجربتها الأولى في الحكم، حتى أن الأمر اختلط على قادتها فاعتقدوا أن الاختبار الذي وُضعوا فيه كان «تمكينا» في الأرض، لا امتحانا لهم ولخبراتهم، فحصل ما حصل! وهنا تحديدا، يبرز سؤال على جانب كبير من الخطورة، يعني الإسلاميين، وغيرهم، لكنه يختص بهم أكثر من غيرهم، كونهم خاضوا تجربة حكم ما، لم تنضج بما فيه الكفاية، وهو: لماذا تُسرق الثورات؟ وكيف؟
تحضرني هنا رؤية للدكتور محمد الغزالي، رحمه الله، في كتابه «الحق المر» يقول فيها: سمعت قائلا يردد في ألم: نحن متفرقون على حقنا، وهم مجتمعون على باطلهم! فقلت له: ما أحسب المتفرقين على حقهم أصحاب حق، فطبيعة الحق أن يجمع أهله! إن أعدادا كبيرة من السائرين تحت لواء الحق تكمن في بواطنهم أباطيل كثيرة، فهم يحتشدون بأجسامهم فقط تحت رايته، ويبدو أن المآرب الكثيرة، والأغراض المختلفة، تجعل لكل منهم وجهة هو موليها، وذاك في نظري ما جعل ثورات عديدة تسرق من أصحابها، ويسير بها الشطار إلى غاية أخرى! حتى قيل: الثورات يرسمها المثاليون وينفذها الفدائيون ويرثها المرتزقة!! ترى لو كان المثاليون والفدائيون على قلب رجل واحد في الإيثار والتجدد أكان يبقى للمرتزقة موضع قدم؟. إن أخطاء خفية، نستخف بها عادة، هي التي تنتهي بذلك المصير!
هكذا تحدث الغزالي، رحمه الله، وهو ينكأ جرحا، أو يفتح ملفا لا يريد أصحاب الثورات أن يتحدث به أحد، بحجة أنه «مش وقته» ترى متى وقته إذًا؟ لم لا يبحث الثوار في قلوبهم عن أسباب سرقة ثوراتهم؟ لماذا يعلقون الفشل، أو قل الاضطرابات التي أعقبت ثوراتهم، على مشجب الآخرين؟
لماذا تسرق الثورات، وتختطف؟ قبل أن نبحث عن إجابة لدى الطرف الآخر، يتعين علينا أن نبحث عنها لدى من ثار، وتوقع أن تكون طريقه مفروشة بالورود، ويستقبله الطغاة والمتضررون بأكاليل الغار، وأقواس النصر، وغلى هذا وذاك، يتعين دراسة تجربة تونس، وما جرى فيها من تفاهمات وموازنات، اخرجتها من دائرة الثورة المضادة، التي حولت الربيع إلى دم!