خلافا لما يعتقد على نطاق واسع، فإن اللورد آرثر بلفور كان يحمل موقفا عدائيا من اليهود، ومعه قطاع واسع من الساسة الإنجليز المعاصرين له، فلندن كانت تتخوف أن يتم تصدير يهود أوروبا لسواحلها، وبدت دائما منزعجة من مجريات الأحداث فيما يتعلق بيهود أوروبا والتصعيد المتوتر منذ منتصف القرن التاسع عشر، والذي تحول إلى مشكلة سياسية وفكرية واجتماعية، وقبل ذلك كله أزمة اقتصادية ضاغطة نتيجة توسع دور الجماعة اليهودية في بناء الرأسمال والأعمال الهامشية والوساطة بجميع أشكالها، وعدم قدرتهم على الاندماج الاجتماعي، وكانت الحركة الصهيونية تستغل حالة التناقض القائمة من أجل تفجير الوضع على مستوى القارة.
تمكنت أوروبا من التخلص من جميع البؤر اليهودية التي عرفت بالجيتو، واصطنعت في فلسطين جيتو كبيرا لم يتحول إلى دولة، ومع كل الادعاءات الاسرائيلية بالدولة المؤسسية والديمقراطية والحرية، تبدو عقيدة الجيتو متوطنة في العقل الاسرائيلي، مترافقة مع جميع نزعات التوتر والعدوانية والرغبة في الصراخ عاليا من وراء قضبان الجيتو بنزق طفولي للفت الأنظار واستجداء الاهتمام.
الاعتداءات الاسرائيلية المتكررة على المسجد الأقصى، هي طريقة مرضية للتعبير عن الوجود في ظل انشغال العالم بتحديات واسعة النطاق، كما يفتعل تماما أبناء المناطق العشوائية المشكلات التي تدفعهم أحيانا إلى توجيه العنف إلى أنفسهم بالخناجر والسكاكين ليصوروا للآخرين أنهم غير مكترثين بالنتائج أو التبعات لهذه الممارسة المازوشية.
اسرائيل تمارس بلطجة من نوع رديء، وتطلق نزواتها في منطقة تجلس على برميل البارود، وهي تؤكد المرة بعد الأخرى، عدم قدرتها على تفهم فكرة التعايش، وتضع التعصب في مواجهة التعصب، والعنف مقابل العنف، وبدلا من التعامل بـ(علمنة) سياسية تضع جانبا إطلاق رهائن عقدة الانتظار للمسيح المخلص الذي يجب لاستحضاره العمل على تخريب العالم وقهر أممه.
الرد الأردني اتسم بلهجة عالية ونبرة تصعيد، ولكن اسرائيل تعلم جيدا أنه لا غطاء عربي للتحرك الأردني، وتتقصد مزيدا من الإحراج لعمان في توقيت معقد، وهذه تصرفات مجانية، لا عائد سياسيا يمكن أن يتحقق من ورائها، بدورها، فإن الأردن يجب أن تمضي في التصعيد لأن ذلك سيعمل على ايقاظ البرغماتية السياسية الاسرائيلية ويعيد التوازن مع مهووسي المقولات التلمودية والتراث الصهيوني مثل ليبرمان ونتنياهو، وغيرهم ممن يعتاشون على استراتيجية الضباع الانتهازية في مشاغلة وتشتيت أي طرف في المواجهة، وتفريغ المواجهة ذاتها من أي معنى يتصف بالنبل أو الشجاعة.
مراجعة العلاقة مع اسرائيل متطلب أردني مهم، واسرائيل تسعى لتحقيق مكاسب مستغلة محدودية إمكانيات المناورة المتاحة للأردن نتيجة الأوضاع على الحدود الشمالية والشرقية، ولكن الرهان الاسرائيلي يركز على معادلة مهددة أصلا بعدم الصلاحية خلال السنوات المقبلة، وتتمثل على الأقل في ضرورة خروجها من الجيتو ومواجهة نصيبها من مخاطر المنطقة ككل، بدلا من بقائها على الهامش مثل مضارب في السوق المالي يصنع ثروته من عرق الآخرين وخسائرهم.