بعد عجز جيشهم وأجهزتهم الأمنية عن إخماد الانتفاضة الشعبية الكبرى، (1987 - 1994)، واجه صناع قرار حكومات الاحتلال آنذاك سؤالاً سياسياً إستراتيجياً من شقين متداخلين، الأول: كيف السبيل لإجهاض تلك الانتفاضة كحدث أطلق مبادرة شعبية هجومية شاملة واسعة وممتدة تطالب بـ"الحرية والاستقلال" وإنهاء الاحتلال بمظاهره السياسية والعسكرية والأمنية والاستيطانية.
أما الثاني، وهو الأهم: كيف السبيل لإجهاض، وفي أقله تصعيب، إمكان تجدد الانتفاضة مستقبلاً كإستراتيجية نضالية بأشكالها ومضامينها الشعبية النوعية في مسار اشتباك الوطنية الفلسطينية المفتوح مع هذا الاحتلال الاستيطاني الإحلالي الإقصائي الذي يرفض قادته إنهاءه، ويصعب تصور رحيله من دون تحويله إلى مشروع خاسر بالمعنى الشامل للكلمة.
في معرض البحث عن إجابة لهذين السؤالين طُرِحت فكرة إخراج جيش الاحتلال من وسط التجمعات السكانية الفلسطينية الكبيرة في الضفة وقطاع غزة باستثناء القدس، وإعادة تموضعه وجهاز "الإدارة المدنية" داخل معسكرات عند بوابات مدن الضفة وداخل مستوطنات قطاع غزة.
في المفاوضات السرية لإبرام "اتفاق أوسلو" أضمر قادة الاحتلال بقيادة رابين آنذاك تمرير هذه الفكرة من خلال الإصرار على تقسيم الاتفاق إلى مرحلتين: "انتقالية" و"نهائية"، بذريعة صعوبة حل جميع قضايا الصراع دفعة واحدة، والحاجة لمرحلة انتقالية لبناء الثقة بخيار التفاوض وقدرته على إيجاد حل لـ"قضايا الوضع النهائي"، (اللاجئين والقدس والحدود والمستوطنات والمياه)، في مدة أقصاها خمس سنوات انتهت في أيار 1999.
لكن، برغم انتهاء هذه المدة حتى من دون بحث جدي في "قضايا الوضع النهائي"، وبرغم أن قادة الاحتلال لم يطبقوا خلالها سوى ما أرادوا تطبيقه من بنود "المرحلة الانتقالية"، قبلت قيادة منظمة التحرير بالتمديد الواقعي للمفاوضات، ارتباطاً بالرهان على أن الولايات المتحدة كراعٍ للمفاوضات، تريد فعلاً تنفيذ وعودها في التوصل إلى تسوية سياسية للصراع وفق مقاربة مؤتمر مدريد، 1991: "الأرض مقابل السلام"، وأنها، أي الولايات المتحدة، لا بد ستبادر إلى الضغط على قادة الاحتلال بصورة تجبرهم على تليين مواقفهم ولو في حدود القبول بإقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة وقطاع غزة وعاصمتها "القدس الشرقية".
لكن الولايات المتحدة هذه لم تحرك ساكناً باستثناء دعوة "الطرفين" إلى مفاوضات كامب ديفيد، 2000، وتحميل الوفد الفلسطيني المفاوض، والرئيس الشهيد ياسر عرفات تحديداً مسؤولية فشل المفاوضات، ذلك فقط لأنه رفض التوقيع على صك الاستسلام الماثل في قبول تحويل ما تم تنفيذه من بنود "المرحلة الانتقالية"، مع اضافات كمية لا تمس جوهر المطالب الصهيونية، إلى حل نهائي للصراع.
وبعد محطة مفاوضات "كامب ديفيد" المفصلية لجأت قيادة منظمة التحرير برئاسة الرئيس الشهيد ياسر عرفات إلى تكتيك التنصل الواقعي من التزام "أوسلو" الأمني، أي دون فرط تعاقده السياسي، عبر تطوير الهبة الجماهيرية التي أعقبت زيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى في أيلول 2000 إلى انتفاضة شعبية، بادر قادة الاحتلال إلى إدماء موجتها الأولى، ما حولها إلى جولة مواجهة عسكرية مع جيش الاحتلال، لكن المفاعيل السلبية لتعدد الأجندات الفلسطينية والظروف الدولية والعربية ما بعد أحداث 11 أيلول 2001 قادت إلى إبطال مفعول ذلك التكتيك السياسي، بل إلى اجتياح شامل للضفة، وبناء جدار فصل التوسع والضم، وصولاً إلى فك الارتباط العسكري والاستيطاني الأحادي مع قطاع غزة، ليتكشف بذلك الهدف السياسي الفعلي لقادة الاحتلال من وراء تقسيم الحل إلى مرحلتين، وإطالة أمد "الانتقالية" منها، وهو، أي الهدف، ما كان لخص جوهره رابين الذي أدار، (كوزير للدفاع ثم كرئيس للوزراء)، المواجهة مع الانتفاضة "الأولى"، مرة بالقول: "ليت البحر يبتلع غزة"، ومرة بالقول: "يجب إخراج الجيش من عش الدبابير في مخيم جباليا ونابلس القديمة.
إذاً، منذ البدء خطط قادة الاحتلال لإجهاض الانتفاضة "الأولى" كحدث وكإستراتيجية بأشكال ومضامين نضالية شعبية تتفوق عليهم وتحرجهم سياسياً وأخلاقيا وتكلفهم خسائر مادية هائلة، ولا يقوى جيشهم الباغي بترسانته العسكرية الهائلة والمتطورة على إخمادها.
واليوم، بعد 21 عاماً على "اتفاق أوسلو"، وبما لا يترك متسعاً لحل وسط أو تسوية سياسية للصراع ينتهج أركان أشد حكومة الاحتلال تطرفاً سياسة هجومية بلغت أوجها في المجاهرة بأطماعهم وشروطهم الصهيونية لفرض "حل إقليمي" يستثني جوهر الصراع قضية الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية والتاريخية.
تجلى ذلك مؤخراً في تصريحات أطلقها كل من نتنياهو ووزير حربه يعالون، لعل أهمها، وأكثرها دلالة: "لن يكون في الضفة دولة فلسطينية، بل حكم إداري ذاتي مُسيطر عليه براً وجواً"، و"لسنا في وارد حل الصراع، بل إدارته"، و"الإسرائيليون ليسوا محتلين، بل يعيشون في أرض آبائهم وأجدادهم"، و"إسرائيل بحاجة إلى ترتيبات أمنية طويلة الأمد في الضفة"، و"مجال الأمن الإسرائيلي يمتد من حدود الأردن مع العراق شرقاً إلى شواطئ البحر المتوسط غرباً"، ناهيك عن تأكيداتهم التي لا تتوقف حول أن "القدس موحدة هي عاصمة إسرائيل الأبدية"، وحول الفصل بين قضايا الضفة وقضايا قطاع غزة، وحول أن لا إنهاء لحصار قطاع غزة من دون نزع سلاح المقاومة.
وكل ذلك دون أن ننسى ناظم هذه الشروط الصهيونية كافة المتمثل في شرط أن لا إنهاء للصراع من دون إسقاط حق عودة اللاجئين و"الاعتراف بإسرائيل دولة للشعب اليهودي".
أما عن التصعيد الميداني النابع - بالضرورة - من التصعيد السياسي فحدث ولا حرج.
فمن سعار تكثيف عمليات مصادرة الأرض واستيطانها وتهويدها، إلى فلتان عصابات المستوطنين وتصعيد جرائم اعتداءاتهم على حياة فلسطينيي الضفة ومزروعاتهم وبيوتهم وممتلكاتهم ومقدساتهم، إلى جنون الهجمة غير المسبوقة على القدس لحسم معركتها، أرضاً وسكاناً وبناء عمرانيا ومصادر رزق ومناهج تعليم ومقدسات، في مقدمتها المسجد الأقصى المراد تقسيمه مكانيا وزمانياً وإنهاء الولاية الأردنية عليه، تمهيداً لهدمه كما يدعو غلاة الجناح الصهيوني الديني، إلى تغيير قواعد الاشتباك في الضفة والقدس عبر إطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين السلميين، وتكثيف حملات الاعتقال، والإداري منه بالذات، وزيادة العقوبات الجماعية بأشكالها، ورفع منسوب التنكيل بالأسرى، ناهيك عن حرب التدمير الشامل والإبادة الجماعية الأخيرة على قطاع غزة، بما يذكِّر بإجراءات الاحتلال الأمنية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي التي أدت إلى انفجار الانتفاضة الشعبية الكبرى في 9 كانون الأول 1987.
عليه، لم يعد السؤال لماذا تتلاحق الهبات الجماهيرية الفلسطينية التي لم تنقطع على مدار السنوات الماضية، إنما لماذا لم يتحول أيٌ منها إلى انتفاضة شعبية شاملة وممتدة، بما فيها هبة القدس المتواصلة منذ حزيران الماضي، والمتسمة إلى درجة كبيرة، شكلاً ومضموناً، بملامح الغليان الشعبي الذي سبق انفجار انتفاضة (1987 - 1994)؟ هنا سؤال منطقي ومشروع يحيل أولاً وأساساً وقبل أي شيء آخر إلى عدم توافر الشرط القيادي الوطني المُوحَّد المستعد والجاهز، بفعل استمرار الانقسام الداخلي الذي لم ينتهِ بتشكيل "حكومة التوافق" الشكلية، ارتباطاً باستمرار الرهان على خيار المفاوضات المثقل بالتزامات سياسية وأمنية واقتصادية، بضمنها التزامات "التنسيق الأمني" و"التهدئة" التي تحولت إلى التزامات من طرف واحد، وبلا مقابل سياسي، ولو في حدود تجميد عمليات مصادرة الأرض الاستيطان والتهويد، أو تخفيف حدة جرائم سياسة الاحتلال الماثلة في العقوبات الجماعية والقتل والجرح والاغتيال والاعتقال وتقطيع الأوصال واستئصال مقومات الهوية الوطنية وتدمير المنازل والممتلكات وانتهاك المقدسات والتنكيل بالأطفال حدَّ إحراق أحدهم حياً وإطلاق النار على بعضهم ودهس بعض آخر منهم و....... من الجرائم التي لا يرتكبها جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، فحسب، بل وعصابات مستوطنيه الفالتة من كل عقال، أيضاً.
لذلك لا عجب، ولا غرابة، في القول: فقط زمانياً، وليس سياسياً، يمكن تأخير انفجار انتفاضة فلسطينية "ثالثة" بمعزل عن الأشكال التي ستتخذها.