أخر الأخبار
في عشق السلاح...
في عشق السلاح...

رفض «حزب الله»، وللمرّة الألف، تسليم سلاحه، ومثله فعل تنظيما «كتائب حزب الله» و«حركة النجباء» العراقيّان، و«حركة حماس» الفلسطينيّة.

وسهلٌ، بطبيعة الحال، أن نبرهن دور الرغبة الإيرانيّة في ذلك، وحاجة إيران إلى إبقاء السلاح في أيدي مسلّحينا. لكنْ قبل أن ينشأ هذا الدور الخارجيّ، طوّرت الحركات الراديكاليّة في العالم العربيّ عشقاً ندر مثيله للسلاح. فالقصائد التي قيلت فيه، والأغاني والهتافات المقفّاة التي امتدحته، لا يعادلها إلاّ الكلام المنتفخ الذي وُصفت به صواريخ عبد الناصر وصدّام حسين، قبل أن تلوح في الأفق الصواريخ الخمينيّة.

وما بين «خلّي السلاح صاحي» و«المعارك مستمرّة» و«أصبح عندي الآن بندقيّة» طوّرت تلك الحركات غزلاّ بالسلاح بعضه عذريّ وبعضه إباحيّ. ومنّا من لا يزال يذكر التكريم الذي حظي به رشّاش الكلاشنيكوف الروسيّ الذي تسلّحت به المقاومة الفلسطينيّة، والذي سمّيناه «كلاشينكوف» قبل أن ندلّعه بالـ«كلاشن».

وكان ولا يزال التغنّي بالسلاح، ومعه الحجج التي تبرّره، خطاباً مكتفياً بذاته. فعشّاق السلاح إنّما أرادوه كي يقاوموا، أو كي يحرّروا. وكانت الوظائف هذه، ولا تزال، تعفي أصحابها من كلّ حديث عمّا سيفعله المسلّحون بعد هذين التحرير والمقاومة. وهكذا، وعملاً بمبدأ «السلاح للسلاح»، ازدادت السياسة فقراً بفقدانها كلّ معنى مستقلّ يتعدّى كونها إعجازاً سلاحيّاً.

أمّا الدولة، التي يُفترض حصر السلاح بها، فرُسمت كائناً بغيضاً نشأ بفعل التجزئة الاستعماريّة ثمّ امتهن العمالة للاستعمار. وهذا إنّما يمنح الميليشيات تفوّقاً ملحوظاً عليها، ليس فقط لأنّها نتاج «الشعب» و«الأمّة»، بل أيضاً لأنّها، وبالتعريف، حركات سلاح وتسلّح مطلقين لا يحدّهما حدّ ولا يضبطهما معيار.

ومشكلة المشاكل هنا إنّما تكمن في أنّ انتصار «العدوّ» الغربيّ، ثمّ الإسرائيليّ، والذي تعاظم تقديس السلاح في مواجهته، إنّما تمّ بأدوات كثيرة قبل أن يتمّ بالسلاح. فهو حقّق التفوّق الذي حقّقه بنتيجة ثورات ضخمة، علميّة ودينيّة وصناعيّة وفكريّة وتنظيميّة، لم يكن التفوّق العسكريّ سوى نتيجة من نتائجها الفرعيّة. بيد أنّ الوعي العربيّ انجرف بأصحابه إلى حيث قلّصوا تلك التحوّلات كلّها إلى مجرّد سلاح، مستنتجين أنّ المطلوب تطوير سلاح يلحق الهزيمة بسلاحه.

والبائس أنّ النظريّة الاختزاليّة هذه لا تجد في تاريخ المنطقة الحديث أيّ مصداق عليها، بل تجد ما لا يُحصى من براهين مضادّة تدحضها. فقد كانت الهزيمة المذلّة التي حصدها المماليك والعثمانيّون في معركة أمبابة عام 1798، أمام الجنود الفرنسيّين الذين قادهم بونابرت، فاتحة هذه الوجهة التي راحت تشقّ طريقها معركةً معركةً وحرباً حرباً. ففي 1882 مثلاً كانت الهزيمة المطنطنة لأحمد عرابي في مواجهته مع الأسطول البريطانيّ. وقبيل الحرب العالميّة الأولى انهزمت الدولة العثمانيّة أمام الإيطاليّين، ثمّ انهزمت، إبّان الحرب، أمام البريطانيّين، في القدس ثمّ في دمشق. أمّا لاحقاً، فلم يكن حظّ يوسف العظمة ومقاتليه في ميسلون، في مواجهة الفرنسيّين، أفضل حالاً من حظّ «ثورة العشرين» العراقيّة في مواجهة البريطانيّين. وهي هزائم ما لبثت أن تلتها هزيمة سلطان باشا الأطرش و«الثورة السوريّة الكبرى» عام 1925. وعلى النحو هذا خيضت حرب فلسطين في 1948 فانهزمت سبعة جيوش عربيّة أمام «عصابات صهيونيّة» حملت معها خبرتها وتكوينها الغربيّين.

وتلك كانت أقرب إلى مقدّمات مهّدت لهزائم الحقبة التالية التي نزلت بالأنظمة والحركات الراديكاليّة، من الناصريّة المصريّة والبعثيّة السوريّة في 1967، إلى المقاومة الفلسطينيّة في 1982، فالعراق البعثيّ في 1991 قبل إطاحة زعيمه صدّام حسين في 2003، انتهاءً بما آلت إليه حربا «طوفان الأقصى» و«الإسناد» بالأمس القريب.

وهذه كلّها من صنف الهزائم التأسيسيّة الكبرى. فهزيمة المماليك أفضت إلى الحملة الفرنسيّة، ومن بعدها دولة محمّد علي، تماماً كما أفضت هزائم الدولة العثمانيّة والمقاومات المحلّيّة التي تلتها إلى ارتسام الدولة – الأمّة في المنطقة، وبدورها آلت الهزائمُ أمام إسرائيل ثمّ اندحار عبد الناصر وصدّام حسين إلى معظم ما تعيش المنطقة العربيّة وطأته اليوم. هكذا جاز القول إنّ تاريخ الشرق الأوسط الحديث هو تاريخ الهزائم التي كان يُفترض بها أنّ تؤسّس وعياً يكره السلاح ويحضّ على بناء أعرض حركات السلم، وهذا إن لم يكن لأسباب إنسانيّة وأخلاقيّة فلأسباب محض مصلحيّة، خصوصاً وأنّ الاستخدام الراهن لهذا السلاح بات تسعة أعشاره يُصرف في الحروب الأهليّة. لكنّ ما حصل هو نقيض ذلك تماماً، إذ أعيد مرّة بعد مرّة تأسيس عشق السلاح.

وتحت وطأة الهزائم التي أمعنت في هزيمة العقل ازداد العشق اشتعالاً، فجعل يقترن بلغة تهديديّة تثير الضحك إذ تؤكّد أنّ الأعداء «لا يفهمون إلاّ لغة القوّة».

ولقائل أن يقول إنّ هذا الاستحواذ الذي يمارسه السلاح علينا مردّه إلى أنّنا لا نملك إلاّ السلاح. وهذا واقع محزن وبائس بما فيه الكفاية، غير أنّه لا يبرّر إضافة بؤس العقل إلى بؤس الواقع. فكيف وأنّ الكثير من السلاح هذا مصدرُه «العدوّ» الغربيّ نفسه؟