رغم أن التاريخ لا يكرر نفسه، إلا أن بعض فصوله قد تتشابه، كما أن من لا يعتبر من تجارب التاريخ، يكون إما ساذجا أو قليل وعي وخبرة، لذا فانه يقع في الخطأ الذي كان يمكن تجنبه، بأخذ حقائق التاريخ بعين الاعتبار. في العام 2000 وحين أغلق الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون أبواب كامب ديفيد على كل من الراحل ياسر عرفات وأهود باراك، بهدف التوصل إلى اتفاق نهائي بين الجانبين، بعد أن انقضت مهلة خمس سنوات حددتها أوسلو للتوصل إلى الحل النهائي، وحين انتهى الأمر بالفشل، انفجرت الأوضاع بينهما، وكان صاعق التفجير زيارة ارئيل شارون، الذي كان حينها سياسيا يائسا، منذ إهماله بعد حرب العام 1982، إلى القدس، وكانت النتيجة أن سقط باراك في الانتخابات التالية لصالح شارون، كما صعدت "حماس" وصولا إلى الفوز بانتخابات العام 2006 .
كأن الصورة تتكرر الآن، فبعد انغلاق الأفق التفاوضي، ها هو نتنياهو يطلق العنان للمتطرفين الذين يجلسون على مقاعد الحكم على يمين حزبه اليميني، الليكود، وحيث أن القدس تشكل مجددا صاعق التفجير، فإن الطامحين للحكم من على يمينه، يفتحون أبواب جهنم، وبالتالي فان الانتفاضة الثالثة إن لم تكن قد انطلقت فعلا، فهي على عتبة الباب مباشرة، ولن يمضي طويل وقت، حتى تنقلب الطاولة على من يظن انه يخوض حربه الأخيرة، معركة القدس، والتي هي بالمناسبة، واجبة وهي مربط الفرس، ومفتاح الحرب والسلام بين الجانبين، وحتى تشهد المعادلة السياسية على الجانبين انقلابا، لن يبقي عليهما معا .
على الجانب الإسرائيلي، إذا لم تحدث معجزة في اللحظة الأخيرة، وتوقف حالة الانهيار الأمني، فان الليكود قد يلحق بحزب العمل، وقد لا يمضي طويل وقت حتى نجد أن نفتالي بينيت قد صار رئيسا للحكومة الإسرائيلية، أما على الجانب الفلسطيني، فان طرفي السلطة فيها، أي فتح وحماس معا، قد يخسران موقعيهما في القيادة والمكانة، وليس شرطا عن طريق انتخابات جديدة، لصالح قوى سياسية أكثر تشددا وقدرة، في نظر الشعب الفلسطيني على المواجهة، بل أن الأمر قد يتدحرج، خاصة مع الضغوط التي تتعرض لها الجماعات الإسلامية في العراق وسورية، لأن تصبح فلسطين والأقصى وجهة هذه الجماعات، التي حينما اندحرت في أفغانستان، تحولت للعراق، ثم لسورية، وفي وقت كانت سيناء وجهتها، هذه المرة قد تجد في أكناف بيت المقدس ضالتها، التي تعيد لها الجمهور العربي / الإسلامي، وهذا الاحتمال، فعليا وعمليا، هو ما تعبر عنه مخاوف القيادة الأردنية، التي تتصل بلادها بحدود طويلة مشتركة مع كل من سورية والعراق، ولأنه يمكن لتلك الجماعات تبرير تحولها للأردن، بذريعة العبور إلى الأقصى !
لعل هذا ما دفع أفيغدور ليبرمان، زعيم حزب " إسرائيل بيتنا " شريك الليكود، الذي طالما جلس على يمين نتنياهو، والذي ربما بات يستشعر خطر بينيت وغيره على مستقبله السياسي، إلى أن يصف دخول الوزراء وأعضاء الكنيست الإسرائيلي للأقصى بالغباء السياسي، واصفاً تلك المحاولات للوصول إلى المسجد الأقصى بأنها تلحق الضرر بجهود الشرطة وقوى الأمن لتهدئة الأجواء .
وفي الخلفية لتلك التصريحات أشار موقع القناة العاشرة للتلفزيون الإسرائيلي إلى الموقف الأردني الذي سارع إلى استدعاء السفير من تل أبيب، كذلك توجه الأردن إلى مجلس الأمن، في الوقت الذي لم يشر فيه بالطبع إلى العمليتين اللتين وقعتا في يوم واحد، أول من أمس، واللتين نتج عنهما مقتل وإصابة جنود ومستوطنين إسرائيليين.
أي أن حصيلة الأيام القليلة الماضية، أشارت إلى أن النار لن تقتصر على الجانب الفلسطيني، وان العمل الأمني الإسرائيلي، الذي يسعى إلى عزل القدس، والخروج بها من معركة إنهاء الاحتلال لن ينجح، دون ترتيبات سياسية، وان رد الفعل لن يقتصر على الفلسطينيين وحسب، والذي لن يكون من شأنه تحقيق الوحدة الداخلية، ليس فقط بين "فتح" و"حماس" ولكن بين صفوف الشعب في كل مكان وحسب، ولكن سرعان ما سينضم العرب، وفي طليعتهم الأردن، لمعركة الدفاع عن القدس.
ولابد من قراءة مغزى ودلالة انطلاق عملية الخليل في أعقاب عملية القدس جيدا، ففي انتفاضة العام 2000 كان معظم الاستشهاديين من الضفة الغربية، وبعضهم جاء من وراء النهر، وحيث أن الشعب الفلسطيني المبدع في أشكال وأدوات ووسائل الكفاح، اعتاد أن يبدع في كل فصل من فصول المواجهة المستمرة، شكلا كفاحيا، فإنه، وبعد أن أبدع الحجر والمقلاع في مواجهة جنود الاحتلال في انتفاضة العام 1987, ابتكر القنابل البشرية، في انتفاضة العام 2000، وها هو يبتدع الآن شكلا جديدا هو "الدهس".
كذلك لابد من القول، أخيرا، بأن الشعب الفلسطيني، كلما استنفد شكلا كفاحيا، ابتدع غيره، وكلما ضاق ذرعا، بما هو قائم، سعى لتغييره، وكلما يئس من ظهور "المخلص" لجأ إلى سواعده، هكذا كان في محطة الكفاح المسلح، حين اقتنع بعدم قدرة النظام العربي على تخليصه من الاحتلال، وهكذا فعل عام 1987 حين اقتنع بان الظاهرة الفدائية قد استنفدت قدراتها، وهكذا يجد نفسه مضطرا لأن يعتمد مجددا على نفسه الآن، حيث سرعان ما ينتفض ويجد الشكل المناسب والقيادة الفاعلة الخارجة من رحم ميدان المواجهة.