التفجيرات الإجرامية التي استهدفت قيادات من حركة فتح ومنصة الاحتفال بذكرى أبو عمار أول أمس لم تكن أمرا مفاجئا أو مستغربا بالنسبة لنا على الأقل ، فطالما حذرنا من فتنة قادمة في قطاع غزة بعد الحرب قد تكون أخطر من الحرب . ما عزز هذه التخوفات حالة الاحتقان والتحريض والتشكيك والخوف والقلق التي تسود قطاع غزة والتي تسيطر على العلاقة بين حركتي فتح وحماس ، بالرغم من وجود حكومة تكنوقراط توافقية ، وبالرغم من الحرب الإسرائيلية المعممة على الشعب الفلسطيني وغير المسبوقة وخصوصا في القدس والضفة وما يُفترض أن تستولد من وحدة وطنية لمواجهتها .
فما أن انتهى مؤتمر (إعمار قطاع غزة ) حتى عادت أطراف من حركة حماس تشكك بنوايا حركة فتح وتوجه انتقادات لاذعة لحركة فتح وللرئيس أبو مازن ، وكأنها تحملهما مسؤولية العدوان الصهيوني على غزة ونتائجه المدمرة ، ومسؤولية تأخر إعمار قطاع غزة ، والشروط المجحفة التي تشترطها الجهات المانحة وإسرائيل حتى يتم الإعمار، بالرغم من أن حركة حماس هي التي أخذت قرار الدخول في الحرب – حتى وإن كانت مكرهة عليه - وانجرت معها بقية الفصائل الفلسطينية ، ولولا المبادرة المصرية وتدخل الرئيس أبو مازن لكانت نتائج الحرب أكثر مأساوية .
سيكون من السذاجة تصديق أن حركة داعش هي مَن قام بهذا العمل ، لأن هذا ليس أسلوبها ، ولأنه لا توجد حالة عداء بين الجماعات السلفية الجهادية وحركة فتح ، وحركة فتح لا تشكل تهديدا للجماعات السلفية ، وإقامة مهرجان إحياء ذكرى أبو عمار ليس بالموضوع الذي يُغضب جماعات السلفية الجهادية ، كما سيكون من السذاجة تحميل جماعة دحلان المسؤولية عن هذه التفجيرات ، فبعض من تم استهدافهم من تيار دحلان ، كما أن هذا ليس الأسلوب الشائع لحل الخلافات داخل فتح والتيار الوطني ، بينما لحركة حماس تاريخ دموي في التعامل مع معارضيها وخصوصا من أنصار حركة فتح .
إذا طبقنا القاعدة الفقهية في القانون الجنائي التي تقول (ابحث عن المستفيد) فإن أصابع الاتهام تُشير إلى جماعات من حركة حماس ، سواء من العسكريين الذين توقفت رواتبهم وامتيازاتهم ، أو من جماعات المصالح الاقتصادية الذين اغتنوا وكدسوا ثروات وامتلكوا الاراضي . هذه الجماعات غير الراضية عن المصالحة والمتخوفة من عودة السلطة وحركة فتح للواجهة في قطاع غزة ، قد تقوم بارتكاب هذه الجريمة ، وكيف لا يكون ذلك وقد أشارت كثير من التحليلات وتلميحات أكثر من مسؤول في حماس أن أحد اسباب الدخول في الحرب الاخيرة هو عدم تلقي العسكريين الحمساويين رواتبهم ! . كما أن حالة التراجع والحصار المالي والسياسي التي تمر بها حماس يخلق حالة من التفكك والتصدع داخل الحركة ، وإن كانت أيام الحرب غطت مؤقتا على هذه الحالة ، فإن نهاية الحرب ونتائجها السلبية والمدمرة ، ثم المسار الذي آلت إليه مشاريع الإعمار، وضعت حركة حماس مجددا أمام طريق مسدود أو أمام الحائط ، الامر الذي يدفع البعض – حتى دون علم القيادة المركزية - لمحاولة فتحه أو كسره بأعمال هوجاء وغير محسوبة استراتيجيا ، لأنها وإن كانت تثير الخوف مؤقتا عند انصار فتح وعند سكان غزة ، إلا أن نتائجها ستكون كارثية على حركة حماس نفسها .
خطورة ما جرى لا تكمن في تعطيل مهرجان إحياء ذكرى أبو عمار ، ولا في استهداف قيادات فتح ، ولكن الخطورة في التوقيت وفي الرسالة التي تتضمنها هذه الاعمال الإرهابية ولو بطريقة غير مباشرة . فأن تأتي هذه الاحداث في ظل الهجمة الصهيونية المسعورة على القدس وتعاظم مشاريع الاستيطان في الضفة ، وفي ظل الجهود الدولية الرسمية والشعبية لإدانة إسرائيل وتحميلها مسؤولية التوتر في فلسطين والمنطقة ، وفي ظل جهود التقدم في ملف المصالحة حتى وإن كان تقدما متعثرا ومترددا ، فإن في ذلك خدمة كبيرة لإسرائيل ، حيث ستسحب هذه التفجيرات وتداعياتها الأنظار والاهتمام من القدس والضفة إلى غزة ، وهو ما كانت تمارسه إسرائيل خلال السنوات الماضية ، من إبعاد الانظار عما يجري في الضفة والقدس حيث يجب أن تكون معركتنا الرئيسة إلى قطاع غزة ، وللأسف فإن ممارسات بعض فصائل المقاومة في غزة ساعد إسرائيل في تنفيذ هذه السياسة ، حيث وبعد ان خرجت إسرائيل من القطاع عام 2005 عادت مجددا بشكل أكثر حضورا وخطورة مما كان عليه الوضع قبل 2005 ، حيث باتت إسرائيل تتحكم اليوم ليس فقط بالمعابر بل وبكل كيس اسمنت أو لتر وقود او دولار يدخل قطاع غزة .
أما الرسالة التي لا تقل خطورة ، فإن التفجيرات ونسبتها لتنظيم داعش توحي بأن قطاع غزة بات يعيش حالة من الانفلات والفوضى الأمنية مثله مثل سوريا والعراق وليبيا ، وأن قطاع غزة مكان غير آمن مما سيزيد من محاولات أهالي القطاع للهروب منه ، كما أن الدول المعنية بإعمار قطاع غزة ، وكذلك كل من يفكر بالاستثمار في قطاع غزة سيُعيد النظر ، فكيف سيتم إعمار القطاع والاستثمار فيه وهو مقبل على حالة فوضى وانفلات أمني ؟ .
تحميل حركة حماس المسؤولية وانتقادها في كثير من الامور لا يعني أن نهج حركة فتح والسلطة والحكومة كان مثاليا أو محصنا من كل خطأ ، فسواء خلال الحرب أو قبلها أو بعدها كانت هناك أوجه تقصير من حركة فتح والسلطة والحكومة ، ولا نعتقد ان إحياء ذكرى استشهاد أبو عمار في قطاع غزة وحتى لو شارك كل اهالي القطاع في المهرجان يعني ان تنظيم حركة فتح بخير . أما بالنسبة للحكومة فإن ردة فعلها على التفجيرات حيث تم تأجيل وصول وفد الحكومة لغزة ، فهذا قرار في رأينا خاطئ وخطير ، حيث يمكن تفسيره بما يعزز الشكوك حول عدم جديدة حكومة التكنوقراط في تولي صلاحياتها في قطاع غزة ، وكأن لسان حال الحكومة يقول : (أجت منك يا جامع) .
فالتفجيرات استهدفت قيادات في حركة فتح وليس مقرات حكومية أو وزراء الحكومة ، والحكومة ليست حكومة فتح ، وبالتالي لماذا تعتقد الحكومة أن وفدها مستهدف أمنيا ؟ أيضا فإن قطاع غزة جزء من السلطة ومن أراضي الدولة الفلسطينية وليس دولة اخرى حتى يتم تأجيل الزيارة لدواعي امنية ! وكنا نعتقد أن التفجيرات ستزيد من إصرار الحكومة على القدوم لغزة لتؤكد أنها حكومة الكل الفلسطيني وإنها لا تتردد أمام الإرهاب ، وبالتالي تعطي القدوة في النضال ضد الإرهاب وعدم التراجع امام مثيري الفتنة ، وهذا ما يجري في كل دول العالم ، فما أن يحدث عمل إرهابي حتى ينتقل رئيس الدولة أو رئيس الوزراء أو عدد من الوزراء أو كل هؤلاء لمكان الجريمة لمواساة المستَهدَفين ورفع معنويات الشعب والتأكيد أن الإرهاب لن ينجح في تعطيل قيام الحكومة بمهامها .
وأخيرا نتمنى أن يتغلب صوت العقل وأن لا تؤثر هذه التفجيرات على مسيرة المصالحة ، ما دامت حركة حماس ادانت رسميا هذا العمل الإجرامي ، ولأنه ليس أمامنا من خيار إلا المصالحة الوطنية استراتيجيا ، وهي مصالحة ستواجهها عقبات وتحديات كثيرة ويجب ان لا تتراجع الحكومة امام أول اختبار ، لأن فشل الحكومة يعني فشل المصالحة وهذا ما يجب ان يعلمه رئيس الوزراء وأعضاء حكومته ، ومن هنا تأتي خطورة قرار تأجيل القدوم لغزة . فلسطين تحتاج لكل التيارات والقوى السياسية سواء كانت وطنية أو إسلامية او يسارية ، وفي قطاع غزة ليس أمام فتح وحماس وبقية الاحزاب إلا العيش المشترك حتى في حالة تعثر توحيد شطري الوطن .