مثلما كانت لدى «حماس» أسبابها، لإحباط إقامة مهرجان الذكرى العاشرة لاستشهاد الرمز ياسر عرفات؛ كانت لديها الأسباب التي تجعلها تحث على إقامة المهرجان، وتأمين حمايته. لكن «حماس» لم تزن الأمر بعقلانية، ولم تتوقف ملياً أمام الأسباب الثانية، فظلت منجذبة غريزياً الى أسباب الإحباط واختارت الطريق الوعرة وأظهرت رعونة، مع علة في داخلها تمثلها بؤر مسلحة تستقوي على العقلاء منهم!
اختارت «حماس» طريقة «الاعتذار» عن تأمين المهرجان وحمايته، فيما يشبه الحياد الإيجابي. لكنها على الأرض وفي السياق، بدأت في استعراض قوة، وفي ممارسة الضغوط، وفي توجيه الاستدعاءات للناشطين الفتحاويين، وبالإعلان عن منع المسيرات في محافظات قطاع غزة، وطرد العمال والفنيين الذين يجهزون المنصة، ومنع أصحاب الحافلات من تأجير حافلاتهم، التي ستنقل الجماهير الى ساحة المهرجان المركزي، وهذا كله جعل الاعتذار الشبيه بالحياد الإيجابي؛ نوعاً من التشاطر أريد منه أن يأتي القرار من «فتح» نفسها، لكي تعلن عن إلغاء المهرجان.
واحد من المستوى الأمني الحمساوي، في لقاء مع كادر فتحاوي في غزة، قال ما ينم عن خشية عميقة من احتشاد الجماهير يوم 11/11/2014. كان معنى الكلام، أن :»المهرجان سيهدم كل ما بنته حماس» منذ انقلابها على النظام السياسي. ولم يكن الكادر الفتحاوي معنياً بالاستفزاز، لكي يتوقف عند تعبير «ما بنته» ويسأل: ماذا بنيتم وأنتم الهدامون؟! فقد توصل الحمساويون الى قناعة، وفق معطيات بدأت تتوالى، بأن المهرجان سيضم على الأقل مليون وربع المليون مواطن. وهذا معناه أن «حماس» لم يتبق لديها في غزة، إلا بعض نفسها، أما بعض نفسها الآخر، فهو ممسوك من معدته ومن القبضة الأمنية، الناشبة أظافرها في خُنّاقه. ومعنى هذا أيضاً، هو أن تتبدى «فتح» على الرغم من أحوالها الصعبة، قيثارة الناس وشبيهتهم.
لكن «حماس» لو وازنت الأمور، ومضت في الاتجاه المعاكس، وتحسست الأسباب التي تجعلها معنية ليس بالحث على حضور الناس للمهرجان وحسب، وإنما كذلك على أن تشارك هي نفسها فيه؛ لأظهرت أنها متمسكة بالوفاق الوطني، الذي هو خشبة النجاة بالنسبة لها، ولأرسلت برقيتها الى الجوار العربي، بمعنى أنها تغيرت وتبدلت، ولكانت أتاحت لجماهير غزة، البرهنة على أنها لا تستحق أن تشملها عقوبات الجوار وحصاراته، بجريرة «حماس» وجماعة «الإخوان». وهذا كله يفيدها بالمحصلة.
غير أن «حماس» اختارت تغطية الشمس بغربال. فمع وقف المسار الديمقراطي وتعطيل التوافقات، التي تتضمن مواعيد لإجراء انتخابات؛ رأت أن المهرجان سيكون استفتاءً، ذا نتيجة مشهودة ولا مراء فيها ولا تزوير. إن هذا كله، يصب في اتجاه خطف إرادة الناس وكتم أنفاسها. والحمساويون باتوا الآن لا يفرقون بين تمظهرات اللحظة وقوتهم الموهومة فيها، وبين سياقات التاريخ. فلا فلاح تاريخياً لهكذا عقول ولهكذا تمظهرات للقوة. فالدور التاريخي، لأية جماعة أو حزب أو قوة، لن يتأسس على اللعب بالبيضة والحجر، ولا على اللف والدوران. إن ما «بنته» حركة «حماس» خلال سبع سنين، تكتبه الوقائع على صفحة التاريخ، بحروف من حجارة الدمار والركام، ومن أضرحة المغدورين الأبرياء في المقابر. والحقائق لا تُدحض بالكلام المضلل. فــ «حماس» لم تُلق القبض على مرتكبي التفجيرات، وهذا له معنى واحد من كلمتين لهما ملحقات: أنتم الفاعلون.
ملحقات الكلمتين، أن تهديداتهم سبقت تفجيراتهم، وقد تزامن التصعيد لممارساتهم المضادة، مع ساعات وأيام التحضير للمهرجان، وكان الهدف هو إحباط المهرجان وإحباط المصالحة. ففي الأولى يظهر حجمهم الطبيعي، أما الثانية، فهي منزوعة الدسم، لأن المال، وهو المرتجى الوحيد منها، لم يتدفق. فالمصالحة عندهم مجرد وصال مع الصراف الآلي مع الاستمرار في هجاء الطرف الذي يضخ الدراهم، ولا شي غير ذلك!
ربما تكون هناك فرصة، لإعادة النظر حمساوياً في الخيارات العبيطة. فإن انهارت المصالحة، يكون الطرف الفتحاوي قد استنفد كل الفرص والوسائل، وعندئذٍ تكون «فتح» هي التي اختارت إلغاء المهرجان، وهذه مسألة بسيطة، قياساً على خيار «حماس»، عندما تكون هي التي اختارت أن «تهنأ» بالخصومة، وأن تتفرعن على الناس الى حين، وأن تأخذ راحتها حتى يتولى التاريخ والناس والنواميس الطبيعية للحياة حسم أمرها مرة والى الأبد. نحن لا ندعو الى عنف، ولا الى اقتتال، لكن الذين ظلموا سيعلمون أي منقلب ينقلبون!