سيظل ياسر عرفات حاضراً في الوعي الفلسطيني مهما طال الزمن أو قصر، وسيظل اسمه احد أسماء فلسطين، وكوفيته رايتها، ولن تغيّب السنون الرجل الذي ارتبط اسمه بفلسطين وارتبطت قضيتها به، حتى بات من الصعب التمييز بينهما، فحيثما حل اسم ياسر عرفات وجدت فلسطين، كما من المتعذر الحديث عن فلسطين دون أن تأتي على سيرة عرفات.
هذا الامتزاج والتداخل وجد بالفطرة كما خلال الزمن العسير متلاطم الأمواج الذي نجح عرفات خلاله في قيادة دفة السفينة التي تحمل علم فلسطين في أوديسة يصعب على هوميروس صياغة تفاصيلها، كما يصعب على كل الشعراء نظم ما يعبر عنها من آلام ومعاناة كما من عشق وفناء.
ياسر عرفات لم يكن عابراً في التاريخ الفلسطيني، ولم يكن زمناً وانقضى. فأنت من الصعب أن تتحدث عن ياسر عرفات بصيغة الماضي، فهو الحاضر في التفاصيل، كما هو النسيج الأبرز في الثوب، وهو الطريق الأوضح في الخريطة، وهو البيت المضيء في ظلمة الغابة.
ياسر عرفات الباقي في الزمن والعابر له، المنتصر على النسيان العصي على كل ميكانزماته، فهو الحاضر أبداً في الوعي وفي الممارسة.
يصعب تخيل الزمن الفلسطيني بلا ياسر عرفات، كما يصعب الحلم بمستقبل فلسطيني لا يكون ياسر عرفات جزءاً منه، فهو أكبر من الأزمان وأكثر بريقاً من وهج الذاكرة؛ فهولا يحتاجها، كما أنه التعبير الأشمل عن شمولية الزمن الفلسطيني واستمراريته.
هل يمكن تخيل الزمن الفلسطيني بلا ياسر عرفات!! يبدو ذلك متعذراً لأن ياسر عرفات موجود ليس في الزمن الفلسطيني فحسب، بل في الجينات الوراثية التي يتخلق منها هذا الزمن.
فهو لم يكن مجرد صانع للأحداث، لأن الأحداث قد يكون لها أكثر من صانع، كما أن أكثر من صانع يمكن أن يفعل الحدث نفسه، ولكن يبدو أنه لا حدث فلسطينياً بلا ياسر عرفات، ولا زمن فلسطينياً بلا ياسر عرفات. كما أنه لم يكن مجرد عابر في الطريق حمل الراية ومضى، إذ إن لا راية بلا قبضة يده حول ساريتها، ولا خريطة بلا عرق جبينه ينز على حوافها. وعليه فهو الزمن والخريطة وهو الطريق والبيت وهو ضوء المصباح والمصباح.
حين كنا صغاراً وكنا نشتري الفلافل في قراطيس مصنوعة من أوراق الجرائد، كانت صورة عرفات في خبر على صفحات الجريدة تبدو شهية أكثر من الفلافل الساخن في القرطاس.
وحين نفرد القرطاس على الأرض لنتناول الفلافل، كانت عيوننا تلاحق تفاصيل الوجه الأسمر والكوفية المرقطة التي تزين رأسه وتتدلى على كتفه بشغف ينسينا جوع الصغار، قبل أن نقف تحت تحريض أمنا للركض للمدرسة.
كانت تلك الطلة السريعة ترتسم في العقل وينسج حولها مخيال الفتى صوراً لبطولات كبيرة يسمعها عن الفدائي الأسمر الذي يحمل بندقيته ثائراً مطالباً بحقه، الحق الفلسطيني الذي هو أكبر من كل قرارات عصبة الأمم وجمعياتها وهيئاتها، إنه الحق العرفاتي.
كما كانت طلة ياسر عرفات من خلف شاشة التلفاز في تلك اللحظات القليلة التي كانت إشارة البث تلتقطها في جهازنا الصغير الأسود والأبيض، في زمن الطفولة، كان وجهه وهو يموج مع التشويش المستمر للبث مثل قمر يركض بين سحابات كثيفة داكنة.
وكان كلما صفا الجو وبان الوجه الاسمر نفرح مثلما نكون عثرنا على غايتنا المنشودة.
كان وجهه يبرق لنا بالدفء ويرسل لنا بحب منقطع النظير. في تلك الليلة الغائمة من شهر تشرين الثاني من العام 1988 حين خرج ياسر عرفات من خلف الشاشة يخطب معلناً دولة فلسطين، خرجنا للشارع رغم منع التجول المفروض على المخيم نهتف لياسر عرفات ونقول: "بالروح بالدم نفديك يا أبو عمار".
كان أبو عمار جزءاً من كل لحظات اشتباكنا مع جنود الاحتلال ونحن فتية لم نكن نفهم وقتها جدل السياسة ولا بلاغة الساسة.
كان حاضراً في كل مكان، في كل تفصيل وانعطافة، كان الجنود حين يقبضون علينا في الطرقات أول شيء يطلبونه منا أن نسب على ياسر عرفات، وكنا نرفض ببراءة لا تعرف سرها، كانوا يريدون منا أن نسب على ذاتنا من خلال السب على ياسر عرفات.
كنا دائماً نشعر أنه بيننا، يجالسنا، يركض معنا في الأزقة وفي ساحات الاشتباك مع الجنود المدججين بالسلاح، وكنا نصدق ما يقول حين يهمس من خلف الراديو أن "الدولة على مرمى حجر".
كان يجعلنا هذا نشعر أن الدولة قد تكون على مرمى الحجر التالي في يدك. كان عرفات هو حالة المواجهة الدائمة مع الاحتلال، وحالة العشق المستمر لفلسطين.
أبو عمار يشبهنا كلنا، يشبهنا في ابتسامته، يشبهنا في تكشيرته، يشبهنا في أحلامه، يشبهنا في نظراته القلقة، يشبهنا في حيرته، يشبهنا في فرحه، يشبهنا في رجفة الرمش باحثاً عن إغفاءة الحلم، في تأتاة الشفاه راكضة خلف كلمة عشق تصف فيها فلسطين.
أبو عمار كان كلنا وكان كل فرد فينا على حدة، كان المجموع مؤتلفاً، وكان الأفراد مجتمعين فينا، كان التمثيل الأصدق عن الكينونة والشمولية.
عشر سنوات تمر وكأن الزمن لا يمر، تمضي الأيام وكأنه الخالد الوحيد في ذلك التاريخ العاصف، والصامد الأوحد في وجه الأمواج العاتية.
كأنه رحل اليوم، او كأنه لم يرحل، عنده فقط يقف الزمن وعلى اعتاب حضوره يغيب الغياب، وإذا ما هبت رياحه اهتزت أزهار الحنون على تخوم الحقول تشتم رائحة الأرض منه، كان ذلك الزمن العرفاتي، والحضور العرفاتي والمستقبل الذي نسجه عرفات بعرق الأيام الخوالي، وهو ينتقل من عاصمة لعاصمة باحثاً عن القدس الذي ووري بجوارها، ليس بعيداً، وليس قريباً، ولكن منتظراً أن يُحمل إلى هناك حيث تهفو الروح وترفرف فوق المساجد والكنائس.
في هذا الحضور تبقى فلسطين ويبقى ياسر عرفات توأمين.