غريب كيف تحجب «الإيديولوجيا» و»المواقف المسبقة» أنظار المصابين بها عن رؤية «الحقائق كما هي»، من دون زيادة أو نقصان ... وكيف يجري ليّ عنق الحقائق، لمجرد أن كاتبا أو مترجما أو محللا سياسيا، قرر في لحظة من لحظات شروده وشطحاته، أن يعيد صياغة مسار الأحداث والتطورات.
الوزير الأمريكي جون كيري في عمان للقاء الملك والرئيس عباس، البحث سيشمل أساساً، الوضع المتفجر في القدس في ضوء الانتهاكات والتعديات الإسرائيلية على القدس والمقدسيين والمقدسات والأقصى ... هذا العنوان الذي يختصر الزيارة، أو أقله أهداف الجانبين الأردني والفلسطيني منها، يتحول فجأة إلى «نقيضة»، فتصبح الزيارة وما تخللها من لقاءات، عنوان «مؤامرة» تستهدف الانتفاضة الفلسطينية الثانية، التي انطلقت من القدس وداخل الخط الأخضر، وقد تعم فلسطين والمنطقة ... هكذا «يشطح» محللون وسياسيون يعتقدون أن العالم على قدر من السذاجة، لتلقي هذه الترهات.
تحيلنا هذه المخيلة الشوهاء، مرة ثانية إلى تأمل المشهد في القدس وأكنافها، فنرى أن ما يجري فيها هو مقاومة شعبية باسلة، متعددة الأشكال والأدوات، تصل إلى مستوى «الهبّة الشعبية» ولم ترق إلى مستوى الانتفاضة الثالثة بعد، ولا ندري متى سترتقي على أية حال ... التفريق بين الأمرين ليس مهماً بالنسبة للذين قضوا السنوات الأخيرة، وهم يتحدثون عن «إرهاصات الانتفاضة الثالثة» وعند أول حدث أو ردة فعل شعبية على عدوان من العدوانات الإسرائيلية المتكررة على الشعب الفلسطيني.
الأمر ليس مكلفاً على الإطلاق، بل ويسبغ على أصحابه سمة ثورية من طراز رفيع، هؤلاء لا يعنيهم أبداً، أن احتدام معركة القدس والأقصى لم تمنع «بعض حماس» على مقارفة موجة تفجيرات مستهدفة قيادات وكوادر فتحاوية، لترد عليها فتح، بأعنف هجوم سياسي – إعلامي منذ الانقسام/ الانقلاب/ الحسم ... ولا أدري في مناخات من هذا النوع، كيف يمكن الحديث عن انتفاضة ثالثة؟ ... لا أدري كيف يمكن إقناع الشباب الفلسطيني بخوض غمار المواجهة مع الاحتلال، فيما طلائعهم وقياداتهم، منهمكة في غمار صراعات السلطة وحروب المغانم؟
ثم، من قال إن الأردن أو السلطة، يستقبلان كيري للبحث في «سبل قطع الطريق على الانتفاضة» وليس في وقف التعديات والانتهاكات الإسرائيلية ... ألم تأتي هؤلاء أنباء الخطاب الأردني غير المسبوق، في وصف ما يجري في فلسطين ودولة الاحتلال؟ ... ألم يروا كيف تحول التدهور غير المسبوق، في العلاقات الأردنية – الإسرائيلية، إلى موضوع رئيس للإعلام والدبلوماسية والحراك الإقليمي والدولي؟ ... ألم يقرؤوا تصريحات نتنياهو بشأن أبو مازن، والتي إن ذكّرت بشيء، فإنما تذكر بتصريحات شارون ضد الراحل ياسر عرفات، الذي تمر هذه الأيام، الذكرى العاشرة لاستشهاده، والتي مهدت لانتزاع ضوء أخضر أمريكي باغتيال مؤسس الحركة الوطنية الفلسطينية؟
انهيار مسار السلام الفلسطيني – الإسرائيلي، والتهديد الذي تُلحقه انتهاكات إسرائيل للأقصى والمقدسات بمستقبل السلام الأردني -الإسرائيلي، هو ما ألزم جون كيري بقطع جدول أعماله المزدحم والقدوم إلى المنطقة، ولا أحسب أن عاقلاً يظن، بأن عمان ورام الله هما من استدعتا الرجل للبحث في كيفية منع شبان القدس من التظاهر أو وقف عمليات «دهس» المستوطنين فيها.
والمؤسف أن هذه القراءات المقلوبة والمغلوطة، لم تعد تقتصر على بعض الكتاب والمحللين السياسيين، فمن إسطنبول يخرج صوت رئيس الحكومة أحمد داود أوغلو محذراً القيادات الإسرائيلية، من أن بلاده لن تصمت حتى وإن صمت الجميع ... من دون أن يكشف عن المقصود بـ «الجميع»، لكأن الرجل «غائب» عن حالة الاشتباك الفلسطيني – الإسرائيلي والأردني – الإسرائيلي، أو لكأننا بصدد محاولة لتحويل الأقصى إلى «جراند بازار» جديد، للمزايدات والمناقصات.
لم نكن ننتظر من أوغلو أن يجرد الجيوش لتحرير القدس والأقصى، فتلكم ليست مهمة تركيا ولا وظيفة حكومتها، بيد أننا كنا نود لو تحدث مهندس «العمق الاستراتيجي»، عن خمسة مليارات دولار سنوياً، هي حجم التجارة المتبادلة بين بلاده ودولة «القادة المتوحشين» في إسرائيل، وهي أرقام تنمو باطراد، ولا تتأثر على ما يبدو، بحسابات الإيديولوجيا والزعامة التركية، وهذا الرقم يفوق بعشرين مرة، حجم التجارة المتبادلة بين الدولة الصامتة (الأردن) والكيان الاحتلالي.
على أية حال، ليس الفلسطينيون أو الأردنيون، بحاجة لمن يذكرهم أو «يستنطقهم»، أو «يخرجهم عن صمتهم» حيال ما يجري في القدس والأقصى، فهم أصحاب الأيدي بنار الاحتلال والاستيطان، أما الآخرون، فأجندتهم هنا لا تختلف عن أجندتهم هناك، في سوريا والعراق وغيرها.