التراشق الاعلامي القاسي والعنيف، واللغة غير المسبوقة في إسفافها وخروجها على مألوف الخلافات السياسية، المستخدمة الآن بين حركتي فتح وحماس اللتين تحتكران القرار الفلسطيني وتواصلان الرهان على تحالفاتهما الاقليمية وعلاقاتهما بعواصم وتنظيمات وهيئات وأجهزة عديدة، يؤشران بوضوح، الى المأزق الذي بات عليه المشروع الوطني الفلسطيني وحال التمزق والضياع الذي اصابه، بعد ان فقدت الحركتان ما تبقى من ثقة قليلة او بينهما، وبات كل منهما ينظر الى الآخر كـ (عدوٍ) يجب ازاحته من الطريق، حتى يتسنى للمنتصرة فيهما ان تمضي قُدُماً في مشروعها «التسووي» في كل حال، رغم همروجة المقاومة المسلحة ورطانة المقاومة الشعبية السلمية، وغيرهما من الاوصاف والنعوت التي تبارت فيهما الحركتان وراحتا تنحتان أوصافاً وتدعّيان انجازاً، فيما هما تسيران في الخط ذاته، وان اختلفت المقاربات والمسارات وما فوق الطاولات وتحتها..
واذا كانت المصالحة المزعومة وغير الجدية بل المفخخة، قد باتت الضحية الاولى لهذا التراشق الاعلامي العنيف بين مَنْ استمرأتا مصادرة القرار الوطني الفلسطيني والادّعاء بتمثيله، رغم ان شرعية كل منهما لم تعد قائمة بعد ان تقادمت نتائج انتخابات المجلس التشريعي في العام 2006 (دع عنك الانتخابات الرئاسية في العام 2005)، وارتأتا ان الحال الراهنة «مريحة» لكل منهما، بعد ان واصلت فتح / السلطة الهيمنة على الضفة الغربية، و»فازت» حماس بغزة إثر ما بات يُعرف في ادبيات السلطة / فتح بالانقلاب، فإن ما يدعو للأسى والحزن هي حال اليسار الفلسطيني الذي فقد كل النفوذ والدور والمكانة السياسية والاخلاقية، التي توفر عليها خلال سنوات الكفاح المسلح، ورؤيته الواضحة والناضجة والصحيحة لمسارات التسوية ومشاريعها التي بدأت ببرنامج النقاط العشر او البرنامج المرحلي (1974) ثم انتهت الى اوسلو البائس والخطير والمدمّر..
اليسار الفلسطيني بمنظماته وتنظيماته وفصائله وشخصياته الوطنية، كان بيضة القبّان والبوصلة التي يصعب على فتح (ولاحقاً عندما برزت حماس) تجاوزه او القفز على آرائه او اهمال ملاحظاته واضاءاته، وكان يعبر بحق عن الضمير الوطني الفلسطيني، بين شطط فتح وانتهازية حماس، وارتباطات الاخيرة، التي لم تكن في معظمها لصالح القضية الفلسطينية، بقدر ما كانت خدمة المشروع «الأُستاذية» الاخواني، بما هي الذراع العسكري للتنظيم الدولي للاخوان المسلمين، الذين لا يقيمون وزنا لمفهوم العروبة بقدر ما يؤمنون بـ»الأممية» الاسلامية، وكان قول مرشد الاخوان المصريين السابق محمد مهدي عاكف التعبير الابرز (والاصدق) عن حقيقة برنامج الاخوان «عندما عمد الى توجيه الاهانة لمصر بلفظ اترفع عن ذكره».
المُتابع لما يجري بين فتح السلطة وحماس، يلحظ تراجع اهتمام الطرفين بالصراع مع الاحتلال الاسرائيلي ومستقبل البرنامج الوطني الفلسطيني الى المرتبة الثانية ان لم نقل الثالثة والرابعة، فضلاً عن اتخاذه طابعا شخصيا وفصائلياً يسحب ما تبقى من رصيدهما، ويمنح رياحا جديدة لاشرعة المحتل الاسرائيلي، الذي يراقب عن كثب مدى الانحدار الذي وصلته الحركتان في صراعهما على «الحكم» والذي لا يعدو مجرد صراع على سلطة ضعيفة وهشة وقاصرة تابعة للاحتلال ولا تملك من أمرها شيئاً، بدا ذلك بوضوح في العدوان الاسرائيلي الاخير المسمى «الجرف الصامد» وانتهى فلسطينياً بصيغة رديئة اخرى لمفهوم المصالحة، وهو حكومة الوحدة الوطنية التي لا يراها احد وإن رآها فإنه لا يرى سوى سراب أو عجز في افضل الاحوال.
هذا ايضا يعكس حال «الشلل» السياسي التي يعيشها اليسار الفلسطيني وانعدام تأثيره على مسار الاحداث وعجزه عن التأثير في مواقف الطرفين بل وحتى الطرف «الاقرب» اليه وهو فتح/ السلطة، التي بدورها تُمسك بمفاتيح الخزينة التي «يَصْرِفُ» منها اهل اليسار ولا يستطيعون المغامرة بفقدانها، بعد ان سُدّت الابواب وانقطعت الامدادات والمساعدات، فهل بات قدر الشعب الفلسطيني ان ينتظر نتائج الصراع بين حركتين فشلتا في استثمار التضحيات الجسيمة وغير المسبوقة عالمياً، التي قدمها الشعب الفلسطيني طوال سنوات الصراع مع الصهيونية والاحتلال الاسرائيلي والدعم الامبريالي الغربي وخصوصاً الاميركي؟
وهل يمكن لهاتين الحركتين ان تُواصلا هذا الاستهتار بمشاعر ومستقبل الشعب الفلسطيني وبرنامجه الوطني التحرري، من أجل أن تنتصر إحداهما على الاخرى او تذعن الحركة الاضعف لرؤى وقراءات ورهانات الحركة «الأخرى» التي مضت كثيراً وطويلاً في «الثقة» بالوسطاء والمبعوثين والناصحين.
..الايام ستروي، لكن اليسار الفلسطيني يبدو انه خرج من «اللعبة» ولم يعد قادراً على العودة الى «الملعب» او التأثير في مجريات الاحداث.