عند أي جريمة، يقفز إلى الواجهة سؤال «من المستفيد؟» ويبدأ التحقيق بتحديد المتهمين، خصوصًا الذين توجه لهم الضحيّةُ الاتهامَ، والمتهم بريء حتى تثبت إدانته.
حركة «فتح»، ضحيّة تفجيرات غزة، وجّهت الاتهام لحركة «حماس» على أساس أنها تتحمل المسؤوليّة عن الأمن في القطاع، وحجة «فتح» وجيهة، وهي أنه لا يعقل تنفيذ هذا العدد من التفجيرات بشكل متزامن وفي مرحلة حسّاسة، وإيصال رسائل التهديد لقادة «فتح» في منطقة يفترض أن تكون مغطاة أمنيًا، من دون أن يكون لـ«حماس» المسيطرة بقوة مشهود لها علاقة بما حصل. فكيف يمكن أن تكون غير قادرة على كشف المجرمين ومن يقف وراءهم بسرعة؟
في الإجابة عن سؤال «من المستفيد؟» لا يمكن إسقاط إسرائيل، فهي المتّهم الدائم لكونها حريصة على استمرار الانقسام الفلسطيني وتعميقه (الدجاجة التي تبيض ذهبًا لها)، وهي حريصة كذلك على تعميق الانفصال بين الضفة والقطاع، وعلى حرف الأنظار عما تقوم به في الضفة من تكثيف غير مسبوق في تنفيذ مخططاتها العدوانيّة.
من السذاجة اتهام إسرائيل بالجريمة برغم أنها تصب بالكامل في مصلحتها، بسبب عدم قدرتها على القيام بالتفجيرات بالصورة التي تمت بها من خلال تحريك مجموعات عديدة بأسلحتها وسياراتها ذات الدفع الرباعي بهذا الشكل الواسع والوقت الحرج، من دون أن تعرض عملاءها أو أفراد قواتها الخاصة للانكشاف.
المتهم الثاني بالتفجيرات هو «حماس» كتنظيم أو مجموعات تابعة لها، وذلك لأن لها مصلحة في تنفيذ هذه التفجيرات لقطع الطريق على عقد مهرجان إحياء الذكرى العاشرة على اغتيال الرئيس ياسر عرفات، لا سيما أن جميع المؤشرات تدل على أنه سيكون حاشدًا واستفتاءً شعبيًا لمصلحة منافستها، ويمكن أن يكون له تداعيات قد تؤدي إلى سقوط حكم «حماس»، أو على الأقل هزّ مكانتها، فهي لا تريد تغيير الصورة البطوليّة التي ترسّخت أثناء العدوان الإسرائيلي الأخير بأنها قائدة الصمود والمقاومة، أو على الأقل العمود الفقري لها، وأنها على خلفيّة ذلك تستحق أن تقود الفلسطينيين، خصوصًا بعد مسلسل التضحيات التي قدمتها.
إن إبلاغ «حماس» لـ«فتح» بأنها غير قادرة على حماية المشاركين في المهرجان الذي يتعارض مع تصريحات أدلى بها عدد من قادة الحركة، مؤشر بالغ الدلالة على أن «حماس» أو مجموعات منها على علاقة بالتفجيرات.
يضاف إلى ما تقدم تراكم شعور «حماس» بالإحباط وعدم الثقة وفشل رهانها على الخروج من مأزقها من خلال المضي في المصالحة. فقد أظهرت مرونة واسعة وقدمت تنازلات ملموسة في سبيل المصالحة كطريق للخروج من مأزقها الذي تفاقم بشكل كبير بعد سقوط نظام «الإخوان المسلمين» في مصر، وما أدى إليه من عداء بين نظام السيسي و«حماس».
فـ«حماس» وافقت على تشكيل حكومة هي حكومة الرئيس بامتياز، أكثر ما هي حكومة وفاق، وتغاضت عن إعلان أن برنامجها برنامج الرئيس، ووافقت على وقف إطلاق النار من دون تحقيق مطالبها، وعلى الآليّة الدوليّة المذلّة لإعادة الإعمار، وعلى عودة السلطة إلى المعابر والحرس الرئاسي إلى الحدود، لتجد أن الحصار يتواصل، وأن إعادة الإعمار تتم بالقطّارة، وأن موظفيها لم يُعترف بهم، وأنّ تقدّمَ كل شيء يتوقف على تجريدها من عناصر قوتها، وصولًا إلى تجريدها من السلطة.
كما وجدت «حماس» أن المطلوب منها أن تخرج من السلطة كليًا، لتكون هناك سلطة واحدة وسلاح واحد كما يكرر الرئيس باستمرار، وما يعنيه ذلك من التخلي عن سلاحها، وأن لا يكون لها تواجد على المعابر والحدود ولا في الوزارات والأجهزة الأمنيّة، لأن المطلوب أن يعود الموظفون المستنكفون عن العمل بقرار وأفراد الأجهزة الأمنيّة ليحلوا محل الموظفين وأفراد الأجهزة الأمنيّة الذين عينتهم «حماس». مع أن الحل موجود، ويكمن في دمج الموظفين على أساس معايير علميّة ووظيفيّة ومهنيّة موضوعيّة من خلال لجنة وطنيّة، تضمن الرواتب والأمان الوظيفي.
إن هذا الوضع يجعل «حماس» غير مستفيدة من المصالحة كما تجري، بل متضررة منها، وهذا أدى لارتفاع الأصوات داخلها لقلب الطاولة على أمل أن يغيّر ذلك من المعادلة القائمة، وإذا لم يحصل شيء من ذلك فليس لديها ما تخسره، وما تلوّح به «حماس» بأن البديل عن الوضع القائم تشكيل «هيئة وطنيّة» تدير قطاع غزة، وهذا نذير شؤم، غير أنه غير قابل للتحقق.
هل يبرر ما سبق الجريمة التي نفذت ضد قيادات «فتح» ومنصة إحياء ذكرى اغتيال ياسر عرفات؟ طبعاً لا، مثلما لا يبرر الظلمُ والفقرُ الجرائم، ولكن يساعد على فهم وتفسير ما حدث، ويساعد على وضع الحلول لمنع وقوعها مجددًا.
يتمثل خطأ «حماس» في أنها تعاملت مع المصالحة من منظور مصالحها الخاصة، أي كمخرج لها من أزمتها، من خلال الاحتفاظ بسلطتها الفعليّة وسيطرتها على الأجهزة الأمنيّة تحديدًا، وأن تحلّ حكومتها مقابل أن تتحمل حكومة الوفاق كامل المسؤوليّة، وهذا يحوّل حكومة الوفاق إلى طربوش ليس أكثر. بينما يتمثل خطأ أبو مازن في أنه يريد تجريد «حماس» من سلطتها، وأن تحل سلطته محلها من دون أن يعطيها أي شيء، وهذا غير منطقي ولا يمكن أن يحدث.
الممكن والمطلوب، أولاً، هو اعتماد القيادة الفلسطينيّة مقاربة جديدة تقطع الحبل السري مع خيار المفاوضات الثنائيّة، والتزامات أوسلو، خصوصاً لجهة التنسيق الأمني، والانضمام فورًا إلى محكمة الجنايات الدوليّة.
ثانيًا، أن تقيم «حماس» مسافة بينها وبين جماعة «الإخوان المسلمين» لكي تغلّب المصلحة الوطنيّة وتتمكن من تصحيح علاقتها مع مصر، وأن تتخلى عن سلطتها لمصلحة سلطة وطنيّة تضمن مشاركة حقيقيّة في المنظمة والسلطة.
ثالثًا، اعتماد إستراتيجيات تجسد القواسم المشتركة في مواجهة المشروع الصهيوني الاستعماري الذي يهدد الكل الفلسطيني، وتفعيل الإطار القيادي المؤقت للمنظمة، وتشكيل حكومة وحدة وطنيّة، ومرجعيّة مشتركة للمقاومة التي يجب الحفاظ على سلاحها بوصفه ورقة إستراتيجيّة بالغة الأهمية.
إن القضيّة في خطر غير مسبوق، وغزة على مشارف انهيار شامل، فانهيار «حماس» من دون وجود مؤسسة وطنيّة جامعة وبديل وطني قادر على الانتصار ويحظى بثقة الشعب، يمكن أن يقود إلى الفوضى وإلى صعود الجماعات المتطرفة مثل «داعش» وغيرها. أما القيادات والفصائل، فمشغولة بمن يقود ومن ينتصر ويستطيع إقصاء الآخر.
هناك من يقول إن «حماس» لا تقبل المشاركة. وهذا صحيح، ولكن هل المنظمة والسلطة تتجسد فيهما المشاركة؟ هل هناك مؤسسة تقود، أم أن هناك شخصًا واحدًا يقود من دون مساءلة ولا محاسبة، ومن دون لجنة تنفيذيّة ولا مجلس وطني أو مركزي ولا مجلس تشريعي؟