في انتظار النتائج الرسمية للانتخابات الرئاسية التونسية، التي بات واضحاً أنها لم تُحسم، بمعنى أن أحداً من المرشحين الـ»22» لم يحصل على نسبة 50% + صوتاً واحداً، كي يجلس في قصر قرطاج، ما يعني أن جولة ثانية في الثامن والعشرين من الشهر المقبل باتت مؤكدة، فإن الترجيحات والنتائج الجزئية المعلنة تشي بأن «المعركة» ستكون بين زعيم حزب نداء تونس، الفائز الأول في الانتخابات البرلمانية (86 مقعداً) الباجي قائد السبسي، ورئيس الجمهورية المؤقت، زعيم ما تبقى من حزب كرتوني اسمه «المؤتمر من أجل الجمهورية» المنصف المرزوقي.
التأمل في طبيعة المعركة التي بدأت حتى قبل اعلان النتائج النهائية للجولة الاولى، تعكس حجم الاستقطاب الذي باتت عليه الجمهورية التونسية والدور الخطير الذي تلعبه حركة النهضة، بزعامة راشد الغنوشي، التي ابدت «بعض» النضج خلال الأزمة السياسية التي عصفت بتونس بعد اغتيال المعارض اليساري شكري بلعيد، وخصوصاً الشخصية القومية البارزة محمد البراهمي، ثم ابدت (النهضة) نضجاً مماثلاً (يُحسب لها فعلاً) عندما توافقت مع القوى الاخرى على مواد الدستور الدائم للبلاد الذي شكل قطيعة مع معظم الدساتير العربية المتخلفة والرجعية والاستبدادية، لكنها (النهضة) تلعب الآن لعبة يصعب وصفها بغير اللعبة القذرة المفضية الى فتنة او اقله ازمة سياسية ستعقب الجولة الثانية، إذا لم تعلن صراحة انها لن تدعم المرزوقي، بعد ان بينت صناديق الاقتراع وبخاصة في الدوائر الجنوبية، ان النهضة صوّتت للمرزوقي (حليفها الدمية طوال أربع سنوات، لم يكن فيها الرئيس المؤقت هذا سوى اداة طيعة في يد الغنوشي ومنفذاً لأجندته الإسلاموية).. بدليل ان حزب المرزوقي لم يحصل سوى على اربعة مقاعد «نيابية» في الجنوب أما في الرئاسية فقد حلّ في المركز الأول.
الحال التونسية الراهنة والتجاذبات التي تميزها.. لا تنتهي، تشبه ما حدث في مصر بعد الجولة الرئاسية الاولى، عندما انحصرت «المعركة» الرئاسية بين «الاخواني» محمد مرسي، وممثل «الفلول» الجنرال أحمد شفيق، وكيف وقعت قوى ثورة 25 يناير، في «فخ» المفاضلة بين من ادّعى انه ممثل للثورة (مرسي هنا) والذي خدع كل القوى عندما وقّع معها «اتفاق فيرمونت» الشهير، فوقفت الى جانبه وساندته باعتبار الاخوان جزءا من ثورة 25 يناير، فيما وصموا الجنرال شفيق بانه الابن المدلل لنظام الفساد والاستبداد «المباركي»، وكان أن «خضع» أيضاً المجلس العسكري الذي كان قابضاً على السلطة ولكن بـ»هوى اخواني»، او على نحو أدق، منفذا لتعليمات الادارة الاميركية بأن يُرسي «العطاء» على مرسي!.
العبارات ذاتها تتكرر الآن في تونس اذ يزعم المرزوقي (كأنه مرسي مصر) دمية النهضة وحبيب الاميركان والفرنسيين، انه مرشح القوى «الديمقراطية والثورية» ولهذا فهو يطلب دعمها «للوقوف في وجه عودة الاستبداد والمنظومة التي حكمت البلاد منذ 1956 – 2011.. ولم يتورع عن طلب دعم الجبهة الشعبية (تحالف القوى اليسارية والوطنية والقومية)، التي تُكفّرها حركة النهضة بزعامة «الديمقراطي» المتأسلم الغنوشي، وتقول عنها بأنها «تحالف قوى شيوعية لا تؤمن بالإسلام» (كذا)...
رَدّ الجبهة الشعبية لم يتأخر حيث رفضت طلب المرزوقي، ووصفته بحليف قتلة زعيميها.. بلعيد والبراهمي.
ماذا عن السبسي (الذي هو هنا شبيه الجنرال شفيق المصري)؟
يكاد الرجل ان يهزأ بمنافسه الذي تحداه في الموافقة على مناظرة تلفزيونية، فيقول السبسي عن المرزوقي: انه حليف الإسلاميين والسلفيين وعصابات ما يسميها قوات حماية الثورة (وهي بالمناسبة ميليشيات شكلتها في الخفاء حركة النهضة لارهاب خصومها السياسيين).
نحن إذاً أمام ثنائية «مصرية» أخرى، ولكن بنكهة تونسية اقل صخبا وعنفا وخطورة مما كان عليه – ولا يزال – المشهد المصري.. مرشحاً يحسب نفسه على تيار إعادة بناء «الدولة» والمحافظة عليها (السبسي) وآخر مرشح يلبس لبوس ثورة لم يُشارك فيها، لكنه التحق متأخراً واستفاد من تواطُئه مع حركة النهضة وهو هنا «المرزوقي»، وتماما كما كانت حال محمد مرسي مرشح الاخوان الاحتياطي.
الكرة إذاً في يد القوى الديمقراطية والمدنية، التي تستطيع ان تهزم مشروع النهضة ودميتها (بعد ان فقدت الدمية الثانية مصطفى بن جعفر، زعيم حزب التكتل الذي خرج من «مولدي» البرلمان والرئاسة صفر اليدين، وانتهى مستقبله السياسي).. هذه القوى الديمقراطية والمدنية، تتوفر على رصيد شعبي وازن وكبير، بدليل النتائج التي حصلت عليها في الانتخابات حيث حصدت الجبهة الشعبية 15 مقعداً برلمانياً وفاز مرشحها الرئاسي حمة الهمامي بنحو 10% في انتخابات 23 نوفمبر الجاري، ما بالك الاتحاد الوطني الحر «الليبرالي» بزعامة سليم الرياحي، رجل الأعمال الهابط على السياسة، والذي لا يلتقي – حتى الآن – مع خطاب النهضة؟.
قد يقول قائل إن الكرة في ملعب النهضة أيضاً وهي لم تحسم موقفها بعد!..
هذا صحيح، وإذا كانت منسجمة مع نفسها وتريد بالفعل ان تجلس في مقاعد المعارضة وتخرج نهائياً من الحكم والحكومة أيضاً، فإنها ستختار الوقوف مع دميتها المرزوقي، أمّا إذا اتقنت قراءة المشهد، فإنها ستتركه لمصيره، وتختار التآلف مع تحالف القوى المدنية والديمقراطية، ولانجاح التجربة التونسية بعيداً عن المشاريع الإقليمية «المعروفة» التي ارتهنت لها طوال السنوات الأربع الماضية.. فهل يفعلها الغنوشي؟
الأيام القليلة القريبة تحمل... الإجابة.