في كلمته أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، توجه الرئيس الأمريكي باراك أوباما برسالة إلى المجتمعات المسلمة، ناشدها من خلالها، مقاومة مظاهر الغلو والتطرف التي تنتشر في صفوفها باسم الدِّين ... الشيء ذاته، بطرق مختلفة، وألسنة مختلفة، تم تداوله في اجتماع الجمعية العامة، الذي طغت على جدول أعماله، قضية «داعش» والحرب الكونية على الإرهاب.
فات الرئيس الأمريكي مخاطبة الأنظمة والحكومات، وبعضها حليف لصيق لبلاده، طالباً إليهم القيام بالأمر ذاته، ابتعد -كدأب قادة الغرب جميعاً- عن تسمية الأشياء بمسمياتها ... لم يُشر من قريب ولا من بعيد، إلى جذور ومنابع هذا الفكر الظلامي – التكفيري ... هنا تدخل «مصالح» الولايات المتحدة في تناقض حاد مع «مبادئها» ... أما حسم هذا التناقض هذه المرة، كما في جميع السوابق التاريخية المعروفة، فكان على الدوام، لحساب «المصالح» على حساب بعض المبادئ، وأحياناً لحساب «المصالح فقط، وبالضد من المبادئ.
بُعيد الحادي من سبتمبر أيلول 2011، طرح في واشنطن وعديد عواصم الغرب سؤال: لماذا يكرهوننا؟ ... و وصلت واشنطن بصورة أدق من أي مرحلة مضت، وتحت ضغط الزلزال الذي هزّ واشنطن ونيويورك، إلى تشخيص يقترب من الدقة حول ظاهرة «الغلو والتطرف» واستتباعاً، الإرهاب ... يومها قيل إن نظماً ديكتاتورية، فاسدة ومستبدة، تولد بيئة خصبة لإنتاج التطرف المنبعث من اليأس والإرهاب النابع من الرغبة في الانتقام ... بدا أن الولايات المتحدة بصدد الاشتباك مع بعض حلفائها الأوثق في المنطقة.
في حينه، جرى وضع الإصبع على بعض منابع الإرهاب الفكرية – والدينية – والإيديولوجية، وتم تحديد «جغرافيّة» هذا الفكر ومصادره الصحراوية ... أيضاً بدا أن واشنطن على وشك الاشتباك مع بعضٍ من أغنى حلفائها ... نجحت حملات الضغط الأمريكي بـ»فتح» المنطقة المغلقة على أي تغيير، والتي عاشت لنصف قرن في مرحلة من الجمود والاستنقاع ... رأينا إرهاصات إصلاح خجول تتقدم به الحكومات والأنظمة ... ورأينا مبادرات إصلاحية متعثرة، تصدر عن مؤسسات المجتمع المدني في المنطقة العربية، ورأينا انتخابات حملت -بخجل- بوادر تغيير من نوع ما، تحت سقف الركود ومن دون أن تقوى على استئصال الفساد والاستبداد.
وأحسب أن تلك الإرهاصات، كانت «المقدمة الضرورية» لما سيعرف لاحقاً، باسم ثورات وانتفاضات «الربيع العربي»، التي لم تعط أكلها حتى سوى في عدد محدود من البلدان العربية، وبتفاوت ... فيما غرقت دول ومجتمعات أخرى، في بحر من الفوضى غير البناءة، ومسلسل عنف واحتراب أهلي، لا نعرف متى «ستبث» الحلقة الأخيرة منه.
تراخت واشنطن، تحت ضغط حساباتها وانشغالاتها ومصالحها عن مواصلة العمل على تنفيذ الخلاصات والتوصيات التي انتهت إليها المراجعات التي فرضتها «غزوتي واشنطن ومنهاتن» ... عادة إلى ممارسة أعمالها كالمعتاد ... واصلت صمتاً متواطئاً مع الفساد والاستبداد ... صرفت النظر عن شعار تجفيف المنابع الفكرية والإيديولوجية للتطرف ... أغمضت العين، وبصورة متواطئة ومفضوحة، عن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، وأحياناً دعمت جرائم هذا الاحتلال ضد الإنسانية كما حصول في الحروب المتعاقبة على غزة ... فماذا كانت النتيجة.
في الذكرة الثالثة عشرة لأحداث الحادي عشر من سبتمبر، تعود القاعدة بصورة أقوى مما كانت عليه قبل أزيد من عقد من الزمان .... هي أقوى عوداً وأعلى تنظيماً وأكثر تصميماً ... هي أقوى عدة وعدداً من قاعدة ابن لادن في أفغانستان ... هي أقرب إلى أوروبا والأطلسي، واستتباعاً للولايات المتحدة ذاتها .... هي أكثر تطرفاً من الناحية الفكرية والعقيدية ومن حيث الممارسات الإجرامية ... هي أكثر تهديداً لمنظومة المصالح الأمريكية ومصالح الدول الحليفة لواشنطن، مما كانت عليه القاعدة، قبل عقد من الزمان.
وها هي واشنطن، تقود حلفاً من أربعين دولة في حرب جديدة ضد الإرهاب والغلو والتطرف، من المرجح أن تكون كلفتها «ترليونية»، وأن تكون لها أشد العواقب على مجتمعات هذه المنطقة ودولها واقتصاداتها ورفاه أبنائها ومستقبلاتهم ... ولا ندري بعد، متى أو كيف ستنتهي هذه الحرب، لكننا نعرف أنه من دون «الإسهامات الجليلة» لبعض حلفاء واشنطن، لما كانت هذه الحرب لتكون على هذا القدر من «الضرورة» و»الإلحاح»، ولما كانت القاعدة، قد أعيد انتاجها أصلاً، وبصورة أكثر شراسة مما كانت عليه القاعدة قبل عشر سنوات أو يزيد.
ولكيلا نجد أنفسنا أمام حرب كونية جديدة كل عشرة أو خمسة عشر عاماً، فإن من الضرورة بمكان، العودة لاستخلاصات تلك الحقبة الدامية في التاريخ الأمريكي الحديث، حقبة «بيرل هاربر 2» في واشنطن ونيويورك ... فالمصالح الآنية، على أهميتها، تبقى أقل أهمية، أن كان الاحتفاظ بها والحفاظ عليها، يتطلب كل هذا الصمت والتواطؤ والتقصير في التعامل مع جذور ومسببات ومنابع «الغلو والتطرف» والإرهاب.